الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا .

الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر.

وتقاة: مصدر وزنه فعلة، أصله تقية، وقد تقدم قوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة، والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى.

واختلف العلماء في قوله: "حق تقاته"; فقالت فرقة: نزلت الآية على عموم لفظها، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم وبقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم.

وقالت جماعة من أهل العلم: لا نسخ في شيء من هذا، وهذه الآيات متفقات، فمعنى هذه: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، وذلك أن "حق تقاته" هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد جعل تعالى الدين يسرا، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة وألا يفتر في العبادة، أمر متعذر في جبلة البشر، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه [ ص: 305 ] الآية، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه: "حق تقاته": هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: معنى قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته : جاهدوا في الله حق جهاده، ولا نسخ في الآية. وقال طاووس في معنى قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته : يقول تعالى: إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

وقوله تعالى: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون معناه: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. هكذا هو وجه الأمر في المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك هاهنا، وإنما المراد: لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك. و"مسلمون" في هذه الآية: هو المعنى الجامع في التصديق والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس.

وقوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا معناه تمنعوا وتحصنوا به، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد، وبارتقاء القنن، وبغير ذلك مما هو منعة، ومنه الأعصم في الجبل، ومنه عصمة النكاح، والحبل في هذه الآية مستعار، لما كان السبب الذي يعتصم به وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ونسبة بينهما شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئا بشيء، وتسمى العهود والمواثيق حبالا، ومنه قول الأعشى:


وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأدنى إليك حبالها



ومنه قول الآخر:


إني بحبلك واصل حبلي . . .      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



[ ص: 306 ] ومنه قول الله تعالى: إلا بحبل من الله وحبل من الناس .

واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية بحبل الله; فقال ابن مسعود: حبل الله: الجماعة. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال: فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: الجماعة، وقرأ: واعتصموا بحبل الله جميعا . وقال ابن مسعود في خطبة: عليكم جميعا بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به. وقال قتادة رحمه الله: حبل الله الذي أمر بالاعتصام به: هو القرآن. وقال السدي: حبل الله: كتاب الله، وقاله أيضا ابن مسعود والضحاك. وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض". وقال أبو العالية: حبل الله في هذه الآية: هو الإخلاص في التوحيد. وقال ابن زيد: حبل الله: هو الإسلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض.

وقوله تعالى: "جميعا" حال من الضمير في قوله: "اعتصموا"، فالمعنى: كونوا في اعتصامكم مجتمعين،."ولا تفرقوا" يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى. وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية. بل ذلك، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلاف أمتي رحمة" وقد اختلف الصحابة في الفروع [ ص: 307 ] أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر.

وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما إن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية