الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد [ ص: 1131 ] الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار

                                                          في الآيات السابقة بين سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم، وكثرة النفر الذين يعاضدونهم، وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم، وعاقبة أمرهم؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا، وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى أن يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها، ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من متع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم. وإذا كان قد بين سبحانه وتعالى أولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا، فقد بين في هذه الآيات مآل المتقين وأوصافهم، ومقدار فهمهم لزخارف هذه الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها. ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها، فقال سبحانه:

                                                          زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه متعها، وهي مصدر الخير، ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العزة، وبها تكون الذلة؛ والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في أحد الطريقين، فإن كانت الإرادة قوية حازمة جعلت من هذه الأمور مصدر خير وطريقا إلى الجنة، وإن تحكم الهوى وغلب الشيطان، وضعف الوجدان الديني، كانت هذه الأمور مصدر شر وطريقا إلى النار؛ فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئ وما تهوى نفسه. [ ص: 1132 ] وإن هذه الأمور محببة لنفس الإنسان، مجبول بفطرته على الميل إليها، والاستشراف لها وطلبها، فهي طلبة النفس الإنسانية؛ إذ هي من طبيعتها، وهي تتقاضاها طبيعة الإنسانية، ومن يحاول أن ينزع الميل إلى هذه الأشياء الستة من نفسه، فإنما يحاول اقتلاع الخاصة الإنسانية من كونه، فالطبيعة الإنسانية قد ركز فيها حب هذه الأمور، ولا تخرج هذه الأمور من النفس الإنسانية إلا إذا بعد الإنسان عن طبعه.

                                                          ولأن هذه الأمور في الفطرة الإنسانية عبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول، فقال سبحانه: زين للناس حب الشهوات من النساء فأبهم سبحانه من زين حب هذه الأمور؛ للإشارة إلى أنها في الفطرة الإنسانية، نشأت في الإنسان منذ خلقه سبحانه وأنزله إلى هذه الدنيا، فهو قد كونه سبحانه ومعه تلك الطبيعة الإنسانية، وإنه ينتهي الأمر إلى أن الذي زين هذا الحب هو الله سبحانه وتعالى، وقد يؤكد ذلك قراءة مجاهد (زين للناس) بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرا يعود على الله سبحانه وتعالى. ومعنى زين للناس حب الشهوات أودعت فطرتهم حب هذه الشهوات، وأنهم لا يرون فيها نقصا ولا مخالفة للكمال، والشهوات المراد بها: موضع الشهوات، فهي من باب ذكر المصدر وإرادة اسم المفعول؛ فهذه الأمور الستة هي المشتهيات، وليست هي الشهوات، ولكن أطلق عليها اسم الشهوات للإشارة إلى شدة محبتها والحرص عليها. ولقد قال الزمخشري في ذلك: " جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشهاة محروصا على الاستمتاع بها " فالمراد أنهم يحبون هذه الأشياء، ويرون محبتها أمرا حسنا، ولا غضاضة فيه.

                                                          ويرى الزمخشري أن قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء فيه إشارة إلى خساسة هذه الأمور، ويقول في ذلك: " والوجه أنه يقصد تخسيسها فيسميها شهوات؛ لأن الشهوة مسترذلة مذموم من اتبعها شاهد على نفسه [ ص: 1133 ] بالبهيمية، وقال: زين للناس حب الشهوات من النساء ثم جاء بالتفسير ليقرر في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله " .

                                                          ولسنا نرى رأي الزمخشري في أن هذه خسيسة في ذاتها، أو يقصد إلى تخسيسها في ذاتها، وإنما نرى أنها فطرة الله يبينها الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أنها مطلوبة من كل إنسان، وأن المقتصد يجمل في الطلب ويجعله للخير، وغير المقتصد يسرف فيفحش، فيكون الشر. وزينة الله التي خلقها ليست حراما، وهي من قبيل هذه المشتهيات، فيقول تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقال تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقال تعالى: وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقال - صلى الله عليه وسلم - في الخيل: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " .

                                                          وقال في الحرث وهو الزرع: " ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو دابة، إلا كان له به صدقة " . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " حبب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته " . وقال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ ص: 1134 ] وبهذا يتبين أن هذه الأعيان ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد تخسيسها، وإن كانت هي دون نعيم الآخرة ومتعها.

                                                          وقوله تعالى: زين للناس حب الشهوات فيه إشارة إلى أن الناس يحبون هذه الشهوات ويستحسنون هذه المحبة؛ وذلك لأن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه في محبته له غير راض عن نفسه، كأولئك الذين يميلون إلى بعض الآفات الاجتماعية، كالخمر، والميسر؛ فإنهم مع ميلهم إليها يستنكرون حالهم، ولا يحمدون ما يفعلون، إلا إذا كانوا قد طمس الله على بصيرتهم، فعموا وضلوا، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، ولكن الناس جميعا مع محبتهم لهذه الأمور يستحسنون هذه المحبة، ويرضون عن أنفسهم في ميلهم إليها؛ وإن ذلك الاستحسان من عامة الناس يدل على أن محبة هذه الأمور من فطرة الإنسان ومن طبيعته؛ وإن هذا الميل لا يدل على خسة في الطبع، ولكنه يدل على أنها في الفطرة.

                                                          وإن محبة هذه الأشياء، وهي رمز للطبيعة الإنسانية ليست بدرجة واحدة، بل تختلف بمقدار قوة نزوع النفس إليها، وتختلف بمقدار ما تشبع به الحاجات والغرائز الإنسانية.

                                                          وقد يقول قائل: وكيف يكون حب الذهب والفضة فطريا، مع أنه ليس من الفطرة؟ والجواب عن ذلك: أن الذهب والفضة يشبعان الحاجات الإنسانية، فهما من الوسائل للوصول إلى النساء وغيرهن، وهما في خدمة تلك الفطرة، وأحبهما الناس لأنهما يوصلان دائما إليها، ثم صار حبهما لذاتهما، وأشبه أن يكون من الفطرة.

                                                          ولنذكر هذه الأمور الستة، وهي مرتبة مراتب بترتيب القرآن الكريم: المرتبة الأولى: النساء، وحبهن فطري في الطبيعة الإنسانية مستكن فيها، لا يختلف فيه الناس إلا من إيفت مشاعره وفسدت طباعه، وهن زهرة هذا [ ص: 1135 ] الوجود الإنساني، ولقد سماهم القرآن كذلك فقال تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا

                                                          وقال تعالى في العلاقة بين الرجل والمرأة: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وإن الرجل في حب النساء قد يستهين بكل شيء. ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " . وقد يقول قائل إن المرأة من المكلفين ومن الناس، فلماذا ذكر حب الرجال للنساء، ولم يذكر حب النساء للرجال، وكلاهما فطري في الطبع الإنساني؟ وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأن طلب الرجل للمرأة أشد وأقوى وأحد، وكثير من الرجال من يفتتنون بالنساء، وقليل من النساء من تظهر فتنتهن بالرجال، والحس يؤيد طلب الرجل للمرأة، فهو يبذل النفس والنفيس في طلبها، ولا يعرف من النساء إلا قليلا من يبذل ذلك.

                                                          والرأي عندي أن ذكر حب الرجال للنساء فيه إشارة إلى علاقة المحبة المتبادلة بين الفريقين؛ فهي إشارة إلى تلك العلاقة الفطرية من الجانبين، فذكر محبة الرجل للمرأة فيه تنبيه إلى محبة المرأة للرجل، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة، واكتفى بذكر حب الرجل؛ لأن حبه الأوضح، ولأنه الأشد، ولأنه الذي يؤدي في جملة أحواله إلى الفتنة، ولأن المرأة مجيبة في هذا الباب لا طالبة، وإن سبقت هي بالمحبة حاولت أن تخلق الطلب في نفس من تحب.

                                                          وحب النساء ليس شرا؛ لأن الله جعل المرأة رحمة للرجل، إنما يكون الشر في الإسراف في الطلب حتى يكون النساء خلب كبده، وفي طلب الحرام، وفي طلب الجمال من غير ملاحظة الدين؛ فلقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم وخضراء الدمن " .

                                                          [ ص: 1136 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - " تنكح المرأة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، عليك بذات الدين تربت يداك " .

                                                          ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر " .

                                                          المرتبة الثانية: حب البنين، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء؛ لأن البنين ثمرة الحب الأول، وفيه إشارة إلى التوجيه الإسلامي، وهو أن يكون حب النساء ذريعة إلى الإنجاب والنسل لا لذاته، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة " . وهل المراد من البنين الذكور فقط؛ الظاهر ذلك، ويزكي هذا قوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا

                                                          وما هو واقع بين الناس في الماضي والحاضر من أنهم يطلبون الذكر دون الأنثى، وأنهم يرون في كثرة البنين نصرة وفخارا، وفي البنت غير ذلك، ولكن لو أننا قلنا: إن المراد الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لكان في النص القرآني متسع؛ لأن الابن يطلق ويراد الذكر والأنثى على سبيل المجاز، وإن محبة الولد بعد ولادته أمر فطري لا فرق بين ذكر وأنثى، وإن كان الكثيرون يرغبون في الذكور دون الإناث، فإن ذلك لا ينفي المحبة الفطرية لأولاده جميعا، والعرب أنفسهم كانوا يحبون بناتهم وإن كانوا لا يعتزون إلا بالبنين. وإني أميل إلى هذا؛ فالأولاد جميعا ثمرات القلوب وقرة الأعين، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة " .

                                                          والمرتبة الثالثة: حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وإن كانت الأوقية التي نعرفها هي [ ص: 1137 ] الأوقية التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقنطار الذي نعرفه في مصر هو القنطار الذي ذكر في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القنطار (1200) أوقية؛ لأنه مائة رطل والرطل (12) أوقية. وقد قال الزجاج في أصل معنى القنطار: إنه مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها، والقنطرة المعقود، فكأن القنطار شيء محكم يسع ذلك المال، أو أنه جمع قدر كبير من المال متراص الأجزاء محكم الربط. والمقنطرة معناها مضاعفة مقادير القنطار، فمعنى قناطير مقنطرة: عدد كثير من القناطير متضاعف، كقولك ألوف مؤلفة، وأضعاف مضاعفة، والمراد: أن كثرة المال أمر محبوب مطلوب زين للناس حبها، ومحبة المال الكثير قد أودعت قلوب الناس؛ لأنهم رأوا أنه السبيل إلى طلب ملاذ هذه الحياة، فلا يجد غايته من النساء إلا ذو مال، ولا غايته من إشباع الحاجات إلا ذو المال؛ ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: " رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت رضي الله عنها أيضا: " إن أحساب ذوي الدنيا بنيت على المال " .

                                                          وإن محبة المال لم تكن في أول الأمر لذات المال، ولكن لأنه ذريعة لغيره من ملاذ الحياة ومطالبها، ولكن بتوالي الأزمنة نسي كثير من الناس الغاية، واتجهوا إلى الوسيلة فصارت في ذاتها غاية، وأصبح المال يطلب لأنه غاية في ذاته، كما هو الشأن في كل وسيلة تؤدي إلى أمر محبوب مؤكد المحبة وهي مؤكدة التوصيل؛ ولذلك صار المال مطلوبا، وطلبه كالأمر الفطري. ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب " .

                                                          [ ص: 1138 ] وطلب المال ليس شرا، بل قد يكون خيرا إن طلب من الطريق الحلال، وأنفق في حلال، وأعطي منه حقه. ولقد قال عليه السلام: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " .

                                                          النوع الرابع: الخيل المسومة، ومعناها: المعلمة بعلامة تجعلها مرموقة حسنة المنظر، تجتلب الأنظار. وقيل المسومة: الراعية. والخيل من مفاخر الناس، ومن أدوات القتال، وكانت عزا للعربي، ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في نواصيها الخير، كما أشرنا من قبل، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الخيل ثلاثة: لرجل ذكر، ولرجل ستر، ولرجل وزر " فهي ذكر لمن كان يقتنيها للجهاد في سبيل الله، وستر لمن يقتنيها ويربيها ويبيع من نتاجها ما يستر به حاله ويرد غائلة الفقر، ووزر لمن يقتنيها ويفاخر بها، وكمن يسابق بها في قمار أو ما يشبه القمار. والخيل في أصل طلبها كانت لأنها أداة الحرب، ومن عدة القتال، ثم صارت هي مطلبا يقتنى لذاته، ويرغب فيه.

                                                          والنوع الخامس: الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وهي تكون في حاجات الإنسان، ويتخذ منها مركبا وزينة ومطعما؛ قال تعالى: والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون

                                                          والنوع السادس: الحرث، وهو الزرع والغراس؛ لأن الحرث معناه: إثارة الأرض ووضع البذر أو الغراس فيها، فأطلق السبب وأريد المسبب. والزرع والشجر منهما يؤخذ ملبس الإنسان وطعامه وأدوات زينته.

                                                          هذه إشارات إلى متع الحياة التي ذكرها النص القرآني الحكيم. ويلاحظ أن القرآن الكريم اقتصر على ذكر هذه الأمور مع أن في الحياة متعا حلالا غيرها، [ ص: 1139 ] فلماذا اختصها بالذكر؟ والجواب عن ذلك أنه ذكرها؛ لأنها أوضح من غيرها، ومجمع على طلبها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها؛ فذكر النساء فيه إشارة إلى متعة الصلة التي تربط بين الرجل والمرأة، سواء أكانت متعة جسدية أم كانت متعة روحية، وإشارة إلى الأسرة التي هي قوام المجتمع. وذكر البنين فيه إشارة إلى بقاء النوع الإنساني، والعزة بالقبيلة والعشيرة والجنس والأرومة. وذكر المال فيه إشارة إلى الحاجات الإنسانية والنظم الاقتصادية التي يعد المال أساسها وعصبها. وذكر الخيل المسومة فيه إشارة إلى الكفاح في نصرة الحق، والجهاد في سبيل الله، وأنه لا يحمي الجماعة إلا قوة مسلحة، كما قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

                                                          وفي ذكر الأنعام والحرث إشارة إلى أصول الإنتاج الطبعي الذي هو مادة الاقتصاد الأولى. فذكر هذه الأمور الستة يومئ إلى سائر متع الحياة؛ ولذلك اعتبره الله سبحانه متع الحياة فقال:

                                                          ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب أي: هذه الأمور التي حببت إلى النفوس هي متاع الحياة الدنيا، وموضع النفع والانتفاع فيها، وهي موضع الزينة ومطلب الناس الذي يستمتعون به ويرغبون فيه، ولكن عليهم في طلبها والسعي إليها واللجاجة في طلبها أن يلاحظوا ربهم؛ وأن يطلبوا ما عنده؛ ولذا قال سبحانه: والله عنده حسن المآب أي أن الله جل جلاله وهو المستحق للألوهية وحده عنده حسن المرجع، فإن المآب معناه المرجع، من: آب يئوب بمعنى: رجع.

                                                          وفي ذكر هذه الجملة السامية في هذا المقام إشارة إلى أن هذه الأمور مع أنها متع هي موضع حساب، فإن اعتدلوا في طلبها وقصدوا إليها من طريقها الحلال وأجملوا في الطلب، كانت موضع ثواب، وإن طلبوها من غير حلها، ولم يعطوا حقها، فإنها تؤدي إلى العقاب. وفي هذا الذكر إشارة إلى وجوب الاعتدال في [ ص: 1140 ] طلبها، فما يعاقب عليه هو الإسراف والإفحاش، وأن ينسى بها ربه وحقه فيها، حتى تلهيه عن ذكر الله، وعن حق الله. وأيضا ففيه إشارة إلى أن عند الله نعيما آخر أعلى وأعظم، وهو ما بينه بقوله تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية