الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] قوله تعالى : من المؤمنين رجال صدقوا الآية . أخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي ، وابن أبي داود في المصاحف والبغوي، وابن مردويه والبيهقي في "سننه" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فألحقتها في سورتها في المصحف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن أنس رضي الله عنه قال : نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . [ ص: 6 ] وأخرج ابن سعد وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي والبغوي في معجمه، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الدلائل" عن أنس قال : غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع . فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو، أين؟ قال : واها لريح الجنة، أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون؛ من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطيالسي ، وابن سعد، وابن أبي شيبة والترمذي وصححه، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه وأبو نعيم في "المعرفة" عن أنس، أن عمه غاب عن قتال بدر فقال : غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين! لئن أشهدني الله قتالا للمشركين ليرين الله [ ص: 7 ] كيف أصنع . فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- ثم تقدم فلقيه سعد فقال : يا أخي، ما فعلت فأنا معك، فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فوجدت فيه بضعا وثمانين؛ من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، فكنا نقول : فيه وفي أصحابه نزلت : فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه، وتعقبه الذهبي، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول، فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية، ثم قال : "أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فائتوهم وزوروهم؛ فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي ذر قال : لما فرغ [ ص: 8 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، مر على مصعب بن عمير مقتولا على طريقه، فقرأ : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي عاصم ، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو . وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد، فقال : أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي : أنا . قال : "هذا ممن قضى نحبه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن طلحة قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ هذه الآية : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية كلها، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت، فقال : أيها السائل، هذا منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن معاوية [ ص: 9 ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "طلحة ممن قضى نحبه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم عن عائشة قالت : دخل طلحة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أنت يا طلحة ممن قضى نحبه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى، وابن المنذر ، وأبو نعيم ، وابن مردويه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن منده، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : دخل طلحة بن عبيد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يا طلحة، أنت ممن قضى نحبه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر عن علي بن أبي طالب، أنهم قالوا : حدثنا عن طلحة، قال : ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر طلحة ممن قضى نحبه، لا حساب عليه فيما يستقبل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 10 ] وأخرج سعيد بن منصور ، وابن الأنباري في "المصاحف" عن ابن عباس أنه كان يقرأ : (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وآخرون بدلوا تبديلا) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس : فمنهم من قضى نحبه . قال : الموت على ما عاهدوا الله عليه، ومنهم من ينتظر الموت على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطستي في "مسائله" عن ابن عباس ، أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله : قضى نحبه قال : أجله الذي قدر له، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم، أما سمعت قول لبيد :

                                                                                                                                                                                                                                      ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل .



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : فمنهم من قضى نحبه . قال : عهده ومنهم من ينتظر يوما فيه جهاد، فيقضي نحبه -يعني عهده- بقتال أو صدق في لقاء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 11 ] وأخرج أحمد، والبخاري ، وابن مردويه ، عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : "الآن نغزوهم ولا يغزونا" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، عن أبي سعيد الخدري قال : حبسنا يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، حتى كان بعد العشاء بهوي وكفينا ذلك، فأنزل الله : وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام، ثم صلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [البقرة : 239] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه عن عيسى بن طلحة قال : دخلت على أم المؤمنين وعائشة بنت طلحة وهي تقول لأمها أسماء : أنا خير منك، وأبي خير من أبيك، فجعلت أسماء تشتمها وتقول : أنت خير مني؟ فقالت عائشة : ألا [ ص: 12 ] أقضي بينكما؟ قالت : بلى، قالت : فإن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له : أنت عتيق الله من النار" . قالت : فمن يومئذ سمي عتيقا ثم دخل طلحة فقال : "أنت يا طلحة ممن قضى نحبه" .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن الكهف عن أبيه في قوله : فمنهم من قضى نحبه . قال : نذره، وقال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      قضت نحبها من يثرب فاستمرت



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد في قوله : فمنهم من قضى نحبه . قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان، ومنهم من ينتظر ذلك، وما بدلوا تبديلا : ولم يغيروا كما غير المنافقون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن أبي نضرة قال : سمعت ابن عباس يقرأ على المنبر : (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا) . [ ص: 13 ] وأخرج ابن جرير عن قتادة : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر من نفسه الصدق والوفاء وما بدلوا تبديلا . يقول : ما شكوا ولا ترددوا في دينهم، ولا استبدلوا به غيره، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . يقول إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : ويعذب المنافقين إن شاء قال : يميتهم على نفاقهم فيوجب لهم العذاب، أو يتوب عليهم . قال : يخرجهم من النفاق بالتوبة؛ حتى يموتوا وهم تائبون من النفاق، فيغفر لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية