الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (128) قوله : أفلم يهد لهم : في فاعل "يهد" أوجه، أحدها: أنه ضمير الباري تعالى. ومعنى يهدي: يبين. ومفعول يهدي محذوف تقديره: أفلم يبين الله لهم العبر وفعله بالأمم المكذبة. قال أبو البقاء: "وفي فاعله وجهان، أحدهما: ضمير اسم الله تعالى، وعلق "بين" هنا إذا كانت بمعنى اعلم، كما علقه في قوله تعالى: "وتبين لكم كيف فعلنا بهم". قال [ ص: 118 ] الشيخ: و "كم" هنا خبرية لا تعلق العامل عنها". وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول. ويدل عليه القراءة بالنون".

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني: أن الفاعل مضمر يفسره ما دل عليه من الكلام بعده. قال الحوفي: " كم أهلكنا " قد دل على هلاك القرون. التقدير: أفلم يتبين لهم هلاك من أهلكنا من القرن ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك. وقال أبو البقاء: "الفاعل ما دل عليه قوله: "أهلكنا" أي إهلاكنا والجملة مفسرة له".

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث: أن الفاعل نفس الجملة بعده. قال الزمخشري: "فاعل "لم يهد" الجملة بعده. يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى: "وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين" أي تركنا عليه هذا الكلام". قال الشيخ: "وكون الجملة فاعل "يهد" هو مذهب كوفي. وأما تشبيهه وتنظيره بقوله: "وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين" فإن "تركنا" معناه معنى القول، فحكيت به الجملة كأنه قيل: وقلنا عليه وأطلقنا عليه هذا اللفظ، والجملة تحكى بمعنى القول كما تحكى بالقول".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 119 ] الوجه الرابع: أنه ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم; لأنه هو المبين لهم بما يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية. وهذا الوجه تقدم نقله عن أبي القاسم الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الخامس: أن الفاعل محذوف، قال ابن عطية نقلا عن غيره: "إن الفاعل مقدر تقديره: الهدى أو الأمر أو النظر والاعتبار" قال ابن عطية: "وهذا عندي أحسن التقادير".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وهو قول المبرد، وليس بجيد; إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال: الفاعل مضمر تقديره: يهد هو أي الهدى"، قلت: ليس في هذا القول أن الفاعل محذوف، بل فيه أنه مقدر، ولفظ "مقدر" كثيرا ما يستعمل في المضمر. وأما مفعول "يهد" ففيه وجهان أحدهما: أنه محذوف. والثاني: أن يكون الجملة من "كم" وما في حيزها; لأنها معلقة له فهي سادة مسد مفعوله.

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه السادس: أن الفاعل "كم"، قاله الحوفي وأنكره على قائله; لأن "كم" استفهام لا يعمل فيها ما قبلها. قال الشيخ: "وليست هنا استفهاما بل هي خبرية". واختار الشيخ أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى فقال: "وأحسن التخاريج أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على الله تعالى فكأنه قال: أفلم يبين الله. ومفعول "يبين" محذوف أي: العبر بإهلاك القرون السابقة. ثم قال: "كم أهلكنا" أي: كثيرا أهلكنا فـ "كم" مفعولة بأهلكنا، والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف لـ "يهد".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 120 ] قوله: "من القرون" في محل نصب نعتا لـ "كم" لأنها نكرة. ويضعف جعله حالا من النكرة. ولا يجوز أن يكون تمييزا على قواعد البصريين، و "من" داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة "يهد" بياء الغيبة. وتقدم الكلام في فاعله. وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنون المؤذنة بالتعظيم، وهي مؤيدة لكون الفاعل في قراءة العامة ضمير الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يمشون" حال من القرون أو من مفعول " أهلكنا " . والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة. ومعناه: إنا أهلكناكم وهم في حال أمن ومشي وتقلب في حاجاتهم كقوله: "أخذناهم بغتة" ويجوز أن يكون حالا من الضمير في "لهم". والضمير في " يمشون " على هذا عائد على من عاد عليه الضمير في "لهم"، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والعامل فيها "يهد". و [المعنى]: أنكم تمشون في مساكن الأمم السالفة، وتتصرفون في بلادهم، فينبغي أن تعتبروا لئلا يحل بكم ما حل بهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن السميفع "يمشون" مبنيا للمفعول مضعفا; لأنه لما تعدى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية