الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعثناهم أي: أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشبيهة بالموت. لنعلم بنون العظمة. وقرئ: بالياء مبنيا للفاعل بطريق الالتفات، وأيا ما كان فهو غاية للبعث، لكن لا يجعل العلم مجازا من الإظهار والتمييز، أو بحمله على ما يصح وقوعه غاية للبعث الحادث من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاء، كما في قوله تعالى: إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وقوله تعالى: وليعلم الله الذين آمنوا ونظائرهما التي يتحقق فيها العلم بتحقق متعلقه قطعا، فإن تحويل القبلة قد ترتب عليه تحزب الناس إلى متبع ومنقلب، وكذا مداولة الأيام بين الناس ترتب عليه تحزبهم إلى الثابت على الإيمان، والمتزلزل فيه، وتعلق بكل من الفريقين العلم الحالي، والإظهار والتمييز. وأما بعث هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره، حتى يتعلق بهما العلم، أو الإظهار. والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية، وإنما الذي ترتب عليه تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب، ومفوض إلى العلم الرباني، وليس شيء منهما من الإحصاء في شيء ، بل يحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا، بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب، وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهار عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية، كقوله تعالى: فأت بها من المغرب وهو المراد ههنا. فالمعنى: بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم. أي الحزبين أي: الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي. أحصى أي: أضبط لما لبثوا أي: للبثهم أمدا أي: غاية فيظهر لهم عجزهم، ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير، وليتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم وأديانهم، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه ، ويستبصروا به أمر البعث. ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلة على ذكر مبدئها الصادر عنه عز وجل. وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي إليها، وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال: بعثناهم بعث من يريد أن يعلم ... إلخ. حسبما وقع في تفسير قوله تعالى: "وليعلم الله الذين آمنوا" على أحد الوجوه حيث حمل على معنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان من غير الثابت، إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد، فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر. هذا وقد قرئ: (ليعلم) مبنيا للمفعول، ومبنيا للفاعل من الإعلام، على أن المفعول الأول محذوف، والجملة المصدرة بـ "أي" في موقع المفعول الثاني فقط إن جعل العلم عرفانيا. أو في موقع المفعولين إن جعل يقينيا، أي: ليعلم الله الناس أي الحزبين أحصى ... إلخ. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحد الحزبين الفتية، والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا [ ص: 208 ] بعد ملك، وقيل: كلاهما من غيرهم، والأول هو الأظهر، فإن "اللام" للعهد ولا عهد لغيرهم و "الأمد" بمعنى المدى كالغاية في قولهم: ابتداء الغاية، وانتهاء الغاية، وهو مفعول لأحصى، والجار والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة، وليس معنى إحصاء تلك المدة ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية، فإنه لا يسمى إحصاء بل ضبطها من حيث كميتها المفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين، وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد على ما يرشدك إليه كون تلك المدة عبارة عما سبق من السنين، ويجوز أن يراد بـ "الأمد" معناه الوضعي بتقدير المضاف، أي: لزمان لبثهم، وبدونه أيضا. فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور، فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد لا محالة لكن ليس المراد به ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات، وهو آن انبعاثهم من نومهم ، فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد، ولا تسمى إحصاء كما مر، بل باعتبار كميته المفصلة معارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين، ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد، كما حقق في الصورة الأولى. والفرق بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلثمائة وتسع سنين، وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها، أعني: السنة التاسعة بعد الثلثمائة، وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد، واشتماله عليها. هذا على تقدير كون ما في قوله تعالى: "لما لبثوا" مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة حذف عائدها من الصلة، أي: للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبر عنه فيما قبل بسنين عددا، فالأمد بمعناه الوضعي على ما تحققته. وقيل: "اللام: مزيدة، والموصول مفعول، و "أمدا" نصب على التمييز. وأما ما قيل من أن أحصى اسم تفضيل; لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة، نحوأيهم أحسن عملا ، أيهم أقرب لكم نفعا إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث، لا بالإحصاء المتأخر عنه، وليس كذلك. وادعاء أن مجيء أفعل التفضيل من المزيدة عليه غير قياسي مدفوع بأنه عند سيبويه قياس مطلقا. وعند ابن عصفور فيما ليست همزته للنقل. ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيل. وامتناع عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات، وأما أن التمييز يجب كونه فاعلا في المعنى فلمانع أن يمنعه بصحة أن يقال: أيهم أحفظ لهذا الشعر وزنا أو تقطيعا، أو يقال : إن العامل في أمدا فعل محذوف يدل عليه المذكور، أي: يحصي لما لبثوا أمدا كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      وأضرب منا بالسيوف القوانسا



                                                                                                                                                                                                                                      وحديث الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوع بما أشير إليه من فائدة الموافقة للنظائر فمع ما فيه من الاعتساف، والخلل بمعزل من السداد; لأن مؤداه أن يكون المقصود بالإخبار إظهار أفضل الحزبين، وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما. ومن البين أن لا تحقق له أصلا، وأن المقصود بالاختبار إظهار عجز الكل عنه رأسا، فهو فعل ماض قطعا، وتوهم إيذانه بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية. والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية