الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 397 ] 214 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصل من القرآن ؛ ما هو ؟

1370 - حدثنا أبو أمية قال : حدثنا محمد بن القاسم الحراني يعني : سحيما قال : حدثنا زهير بن معاوية قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي قال : سمعت ابن مسعود يقول : أنزل الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - المفصل بمكة ، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ما قد دل على أن سورة الحجرات ليست منه ، وأنها مدنية ؛ لأن فيها نهي الله عز وجل الناس أن يرفعوا أصواتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كان ذلك في الخبر الذي ظن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فيه بنفسه ما ظن حتى جلس في بيته ، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان سبب رجوعه إلى مجلسه . ولأن فيها لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .

وإنما [ ص: 398 ] كان سبب نزول ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم - لما كان من أبي بكر وعمر من مشورة كل واحد منهما عليه بتولية من أشار عليه بتوليته من الأقرع بن حابس ومن القعقاع ومن معبد بن زرارة . وقد ذكرنا ذلك وما روي فيه فيما تقدم من كتابنا هذا .

ولأن فيها : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، الآية . فكان سبب نزول ذلك في الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا إلى قوم ، فأقبلوا إليه ليكرموه . فلما رآهم مقبلين نحوه أدبر هاربا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره عنهم بخلاف ذلك ، وجاؤوا من بعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بحقيقة أمرهم ، وأنزل الله تصديقهم عليه .

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يول أحدا ولم يبعث مصدقا وهو بمكة ، وإنما كان ذلك منه وهو بالمدينة .

ولأن فيها : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، الآية . وإنما كان ذلك لسبب كان بين الأنصار حتى تحاربوا من أجله [ ص: 399 ] بما تحاربوا به ، فأنزل الله عز وجل هذه في ذلك ، وسنذكر ذلك بإسناده فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله .

وإذا انتفى أن تكون الحجرات من المفصل لما قد ذكرنا ، ولأن الحجرات لم تكن إلا بالمدينة كان أوله ( قاف ) .

ثم نظرنا إلى ما يدل على ذلك سوى هذا الحديث .

1371 - فوجدنا فهدا قد حدثنا قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الثقفي قال : حدثنا عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده أنه كان في الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني مالك . قال أبو جعفر : وهم بنو مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف ، فأنزلهم في قبة له بين المسجد وبين أهله ، وكان يختلف إليهم فيحدثهم بعد العشاء الآخرة ، وأكثر ما يحدثهم تشكيه قريشا ثم يقول : لا سواء ، كنا مستضعفين مستذلين بمكة . فلما قدمنا المدينة كانت سجال الحرب لنا وعلينا ، فاحتبس عنا ليلة فقلنا : يا رسول الله ، لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت !

قال : نعم ، طرأ علي حزب من القرآن ، فأحببت أن لا أخرج من المسجد حتى أقضيه . فقلنا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أنه طرأ عليه الليلة حزب من القرآن فكيف كنتم تحزبون القرآن ؟ قالوا : نحزبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة سورة ، وثلاث عشرة سورة ، وحزب ما بين المفصل وأسفل
.

[ ص: 400 ]

1372 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا وكيع بن الجراح قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الثقفي ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده أوس بن حذيفة قال : قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فأنزلنا عليه ، وأنزل إخواننا من الأحلاف على المغيرة بن شعبة .

فكان يأتينا - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا ، وكان عامة حديثه تشكيه قريشا ، ويقول : ولا سواء ، كنا بمكة مستذلين مستضعفين ، فلما قدمنا المدينة كانت الحرب سجالا لنا وعلينا .

فأبطأ علينا ذات ليلة فقلنا له ، فقال : إنه طرأ علي حزب من القرآن ، وكنت أحزبه . قال : فلقيت بعض أصحابه فقلت : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزب القرآن ؟ قال : كان يحزبه ثلاثا ، وخمسا ، وسبعا وتسعا ، وإحدى عشرة .


قال أبو جعفر : وسقط من هذا الحديث مما هو ثابت في الحديث الذي قبله : وثلاث عشرة .

1373 - حدثنا فهد قال : حدثنا يوسف بن البهلول قال : حدثنا سليمان بن حيان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب [ ص: 401 ] الطائفي ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس بن حذيفة ، عن جده أوس بن حذيفة قال : وفدت في وفد ثقيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة . وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له . فكان ينصرف علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء ، فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام ، وأكثر ما يحدثنا ما كان يلقى من قريش . ثم يقول : لا سواء ، كنا بمكة مستذلين مستضعفين ، فلما هاجرنا كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا .

فلما كان ذات ليلة أبطأ علينا عن الوقت الذي كان يأتي فيه ، فقلت : أبطأت علينا الليلة ؟ فقال : إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أجيء حتى أتمه . قال أوس بن حذيفة : فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاثا ، وخمسا ، وسبعا ، وتسعا ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده .


قال أبو جعفر : أبو خالد وهو سليمان بن حيان فنظرنا فيه فإذا ثلاثة سور من أول القرآن : البقرة ، وآل عمران ، والنساء . والخمس : المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة .

والسبع : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل . والتسع : بني إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان .

[ ص: 402 ] والإحدى عشرة : الطواسين ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، ويس .

والثلاث عشرة : الصافات ، وص ، والزمر ، وحم ، يعني : آل حميم ، وسورة محمد ، والفتح ، والحجرات .

وحزب المفصل .

قال أبو جعفر : ففيما روينا من هذه الآثار تحقيق أمر الحجرات أنها ليست من المفصل ، وأن المفصل ما بعدها إلى آخر القرآن .

حدثنا أبو أمية قال : حدثنا منصور بن سقير قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر قال : كان أول مفصل ابن مسعود الرحمن .

قال أبو جعفر : وهذا عندنا - والله أعلم - إنما جاء لاختلاف تأليف السور عند ابن مسعود وعند غيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تولوا كتاب القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه وعنهم ، وهو التأليف الذي هو الحجة .

وقد يحتمل أن يكون كان في تأليف ابن مسعود بعد سورة الرحمن قاف والذاريات وما سواهما من السور التي بينها وبين سورة الرحمن ، وتكون الحجرات خارجة من ذلك راجعة إلى مثل ما هي عليه من تحزيب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قد ذكرنا في حديث أوس بن حذيفة .

وفي حديث وكيع الذي قد رويناه في هذا الباب من أحاديث أوس بن حذيفة حرف يجب أن يوقف عليه ، وهو قوله فيه : فقلت : كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحزب القرآن ؟ ففي ذلك إضافة تحزيبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي حديث غيره مما رجع إلى حديث أوس بن حذيفة قال أوس : فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن ؟ فأضاف التحزيب إليهم لا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والله أعلم كيف الحقيقة في ذلك . وإياه نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية