الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 532 ]

                وأنكر قوم المجاز مطلقا ، والحق ثبوته في المفرد ، كالأسد في الشجاع ، وفي المركب ، نحو : أشابني الزمان ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وأحياني اكتحالي بطلعتك ، على الأظهر فيه .

                التالي السابق


                قوله : " وأنكر قوم المجاز مطلقا ، والحق ثبوته " .

                اختلف الناس في المجاز ، فأثبته الجمهور مطلقا ، مفردا ومركبا ، في عموم اللغة ، وخصوص القرآن .

                وأنكره الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه مطلقا ، واحتجوا بوجهين :

                أحدهما : أن اللفظ إما غير مفيد ، فليس من اللغة ، لأنه مهمل ، أو مفيد للمراد به فإفادته إما بنفسه بغير قرينة ، أو مع القرينة ، فهو حقيقة على التقديرين ، لإفادته عين المراد به دون غيره ، فإن قولنا : رأيت أسدا بيده سيف يضرب به ، يفيد الرجل الشجاع قطعا ، كما أن قولنا : رأيت أسدا ، يفيد السبع الخاص عند الإطلاق وضعا .

                والجواب : أن النزاع بموجب ما ذكرتم لفظي ، لأنكم أنتم تسمون اللفظ المفيد مطلقا حقيقة ، سواء أفاد بنفسه أو قرينة .

                ونحن نقول : إن أفاد بنفسه ، فهو حقيقة ، وإن توقفت إفادته على قرينة فهو مجاز ، والخطب في النزاع اللفظي يسير ، وتسميتنا أولى ، إعطاء لكل واحد من لفظي الحقيقة والمجاز مسمى ومدلولا .

                الوجه الثاني لهم : أن استعمال المجاز مع افتقاره إلى القرينة ، وإمكان الاستغناء عنه باللفظ الحقيقي ، مخالف حكم أهل الوضع ، لأنه تكلف خال عن فائدة ، كاستعمال لفظ الحمار في البليد ، مع إمكان أن يقول : هو بليد . [ ص: 533 ]

                والجواب : لا نسلم أنه تكلف ، ولا أنه خال عن فائدة ، بل المجاز أخف على اللسان ، وأعون على تحقيق الأوزان نظما ونثرا ، وعلى تحقيق الجناس والطباق ، والتعظيم والتحقير ، وهو أخف على القلوب ، وأسهل دخولا في الأسماع ، وهو من بديع لغة العرب ومحاسنها .

                والدليل لنا على ثبوته : أنه ممكن واقع . أما إمكانه فلأن فرض وقوعه على ما نبين في حده لا يلزم منه محال لذاته ولا لغيره ، وكل ما كان كذلك ، فهو ممكن ، وأما وقوعه ، فما اشتهر من استعمال أهل اللغة من إطلاق لفظ الأسد على الشجاع ، والحمار على البليد ، والبحر على العالم ، والجواد ، والفرس الشديد الجري ، في قوله عليه السلام في فرس أبي طلحة لما ركبه : وجدناه بحرا وغير ذلك كثير .

                وقولهم : إن إفادة هذه الألفاظ مع القرينة حقيقة : نزاع لفظي كما بينا ، فلا يعرج عليه .

                قوله : " والحق ثبوته " ، يعني أصل المجاز مطلقا ، وقد بيناه .

                والحق ثبوته أيضا في المفرد والمركب على الأظهر فيه ، لأن النزاع إما في أصل المجاز أو في أقسامه ، فبعض من وافق على أصل المجاز إمكانا ووقوعا نازع في أقسامه فقال : لا مجاز إلا في مفردات الألفاظ دون مركباتها .

                فالمجاز الإفرادي ، أي : الواقع في مفردات الألفاظ ، كاستعمال لفظ الأسد في [ ص: 534 ] الشجاع ، فإن الأسد لفظ مفرد ، دل على مسمى مفرد ، والشجاع كذلك ، فهذا يسمى مجازا إفراديا ، ومجازا في المفردات .

                والمجاز التركيبي ، أي : الواقع في الألفاظ المركبة ، نحو قول الشاعر :


                أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي

                وإلى هذا أشرت بقولي : " نحو أشابني الزمان " وكقول هذا الشاعر بعينه :


                تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي

                فلفظ الإشابة حقيقة في مدلوله ، وهو تبييض الشعر لنقص الحار الغريزي ، لضعف الكبر ، ولفظ الزمان - الذي هو مرور الليل والنهار - حقيقة في مدلوله أيضا ، لكن إسناد الإشابة إلى الزمان مجاز ، إذ المشيب للناس في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، فهذا مجاز في التركيب ، أي : في إسناد الألفاظ بعضها إلى بعض ، لا في نفس مدلولات الألفاظ ، وهكذا كل لفظ كان موضوعا في اللغة ليسند إلى لفظ آخر فأسند إلى غير ذلك اللفظ ، فإسناده مجاز تركيبي ، كلفظ السؤال ، فإنه وضع في اللغة ليسند إلى أولي العقل والعلم ، نحو : سألت زيدا عن كذا ، فاسأل به خبيرا [ الفرقان : 59 ] ، فاسألوا أهل الذكر [ النحل : 43 ] ، إذا سألت فاسأل الله ، واسألوا الله من فضله [ النساء : 32 ] ، فإذا أسند السؤال إلى غير ذوي العلم كان مجازا إسناديا ، كقوله سبحانه وتعالى : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، [ ص: 535 ] لأن السؤال لم يوضع ليسند إلى القرية ، التي هي الأبنية والجدران الجامدة ، بل إلى العقلاء ، فلذلك قدر فيه الأهل ، فقيل معناه : واسأل أهل القرية . وهكذا قول الشاعر :


                تموت مع المرء حاجاته

                فلفظ الموت والحاجة حقيقة في مدلولها ، وإنما المجاز في إسناد الموت إلى الحاجة ، وإنما وضع الموت ليسند إلى الأجسام الحية .

                ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى : وأخرجت الأرض أثقالها [ الزلزلة : 2 ] ، فلفظ الإخراج والأرض حقيقة في مدلولهما ، والمجاز في إسناد الإخراج إلى الأرض ، إذ المخرج لأثقال الأرض - وهم الموتى في الحقيقة - إنما هو الله سبحانه وتعالى .

                وكذلك قولهم : أحياني اكتحالي بطلعتك ، حقيقته : سرتني رؤيتك ، لكنه أطلق لفظ الإحياء على السرور مجازا إفراديا ، لأن الحياة شرط صحة السرور ، وهو من آثارها .

                وكذلك لفظ الاكتحال على الرؤية مجاز إفرادي ، لأن الاكتحال جعل العين مشتملة على الكحل ، كما أن الرؤية جعل العين مشتملة على صورة المرئي بانطباعها في الجليدة . فلفظ الإحياء والاكتحال حقيقة في مدلولهما ، وهو سلك الروح في الجسد ووضع الكحل في العين ، واستعماله - أعني لفظ الإحياء والاكتحال - في السرور والرؤية مجاز إفرادي ، وإسناد الإحياء إلى الاكتحال مجاز تركيبي ، لأن لفظ الإحياء لم يوضع ليسند إلى الاكتحال ، بل إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن الأحياء والإماتة الحقيقيين من خواص قدرته سبحانه وتعالى . [ ص: 536 ]

                فقد بان بهذا أن المجاز إما في الإفراد ، كاستعمال الأسد في الشجاع ، أو في التركيب نحو : أشابني الزمان ، وأخرجت الأرض أثقالها [ الزلزلة : 2 ] ، واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، أو في الإفراد والتركيب معا ، نحو : أحياني اكتحالي بطلعتك ، فإن التجوز في لفظ الإحياء في إسناد الإحياء إلى الاكتحال .

                وأما قوله : " على الأظهر فيه " ، فإشارة إلى وقوع الخلاف في المجاز التركيبي ، وهكذا أطلق بعض الأصوليين الخلاف فيه .

                والتحقيق أن الخلاف ليس في جوازه ، ولا في وقوعه ، بدليل الأمثلة المذكورة ، وإنما الخلاف في كونه عقليا أو لغويا ، أي : في أن المنقول في هذا المجاز ، هل هو حكم عقلي أو لفظ لغوي وضعي ؟

                احتج الأولون بأن الإخراج والإنبات في قوله تعالى : وأخرجت الأرض [ الزلزلة : 2 ] ، و مما تنبت الأرض [ البقرة : 61 ] ، غير مسندين في الحقيقة إلى الأرض ، بل إلى الله سبحانه وتعالى ، وقد بين ذلك بقوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض [ البقرة : 267 ] ، وقوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا [ عبس : 27 ] ، وإسناد الإخراج والإنبات إلى الله سبحانه وتعالى أمر عقلي ، أي : يدرك بالعقل ، وإسناده إلى الأرض نقل لحكم عقلي عن [ ص: 537 ] متعلقه الحقيقي إلى غيره ، ولا معنى لقولنا : إن المجاز التركيبي عقلي إلا هذا .

                واحتج الآخرون بأن صيغة أخرج وأنبت وضعت في اللغة بإزاء صدور الإخراج والإنبات عن عالم قادر ، فإذا استعملت تلك الصيغة في صدورها عن الأرض ، فقد استعملت في غير موضوعها ، كما استعمل لفظ الأسد إذا أريد به الرجل الشجاع في غير موضوعه ، فيكون هذا المجاز لغويا .

                وأجيب عن هذا : بأن صيغ الأفعال لا تدل على خصوصية الفاعل دلالة لفظية ، لا مطابقة ولا تضمنا ، وإنما تدل عليه دلالة عقلية التزامية ، وحينئذ نقول : صيغة أخرج وأنبت لا تدل على صدورهما عن عالم قادر من حيث اللفظ ، وإنما تدل عليه من حيث العقل ، لاستحالة صدور الأفعال حقيقة عن الجمادات ، وأبلغ من هذا أن الفعل إنما يدل على فاعله مطلقا دلالة الأثر على المؤثر ، لاستحالة فعل لا فاعل له ، وهي دلالة عقلية ، وحينئذ يثبت أن دلالة الإخراج والإنبات على صدورهما عن الله تعالى عقلية ، فيكون إسناده إلى الأرض نقلا لحكم عقلي ، فيكون هذا المجاز عقليا لا لغويا ، وإن قولنا : هو ثابت على الأظهر فيه ، متابعة لمن أطلق خلاف الصواب ، وإنه كان قبل وقوفي على هذا التقدير ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية