الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا "وهن العظم "؛ أي: ضعف؛ ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله; لأنه عمود البدن؛ وبه قوامه؛ وهو أصل بنائه؛ فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته; ولأنه أشد ما فيه وأصلبه؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه؛ كذا قال القرطبي في تفسيره .

                                                          ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي؛ ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف؛ وهو أنه يعلوه الشيب؛ فقال: واشتعل الرأس "الاشتعال ": الانتشار؛ و "شيبا "؛ تمييز؛ محول عن الفاعل؛ والمعنى: اشتعل شيب الرأس؛ أي: انتشر الشيب فيه؛ والاشتعال - مع أنه بمعنى الانتشار - إلا أنه غلب على انتشار النار؛ وهنا نجد ثمة استعارة؛ فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار؛ إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار؛ ولأن فيه إفناء الشعر الأسود ؛ كما تحرق [ ص: 4610 ] النار ما يكون حطبها؛ ولأنه أمارة الفناء للعمر؛ كما تفني النار ما تحرقه؛ وأسند الشيب إلى الرأس؛ مع أنه يكون في الشعر؛ من قبيل اسم المحال؛ وإرادة الحال؛ إذ جلد الرأس هو منبت الشعر؛ ويكون فيه؛ وإن في هذا النص من البلاغ ما يليق بالقرآن الكريم أبلغ القول؛ في الإنسانية كلها؛ إذ هو كلام الله (تعالى)؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه؛ ولا من خلفه؛ فإن نسبة الاشتعال إلى الرأس ما يثير الاهتمام؛ فيحاول العقل تعرف اشتعال الرأس؛ فيجيء التمييز "شيبا "؛ بما يفيد اشتعال الشعر؛ ولم يذكر الشعر؛ بل اكتفى بذكر محله.

                                                          وقال الله (تعالى) عن زكريا: ولم أكن بدعائك رب شقيا في هذه الجملة السامية الدلالة على رجائه من الله (تعالى)؛ وفيها ذاتها ضراعة؛ وعبر هنا بالدعاء؛ وفي الأولى بالنداء؛ للدلالة على أن النداء استغاثة وتلهف ورجاء؛ ودعاء وعبادة وتقى؛ وذكر "رب "؛ في هذه؛ لبيان أن نعمه - سبحانه وتعالى - موصولة دائما منذ خلقه؛ إلى أن يبعثه نبيا؛ و "شقي بالأمر "؛ إذا تعب فيه؛ ولم ينل ثمرته؛ أو طرد من خير؛ والمعنى: لم أكن - منذ خلقتني - بدعائك محروما متعبا؛ بل كانت نعمة استجابة دعائي قائمة دائمة موصولة؛ وفي نفي الشقاء في الدعاء ماضيا تأكيد للرجاء قابلا؛ وأن ذلك من طرائق الاستجابة؛ والرغبة فيها؛ وإن ذكر النعمة الماضية شكر لها؛ وإيذان لشكر فاعله.

                                                          وصرح بموضوع الدعاء؛ فقال:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية