الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                ( وأما ) حكم النذر فالكلام فيه في مواضع : الأول في بيان أصل الحكم ، والثاني في بيان وقت ثبوته ، والثالث في بيان كيفية ثبوته .

                                                                                                                                - أما أصل الحكم فالناذر لا يخلو من أن يكون نذر وسمى ، أو نذر ولم يسم ، فإن نذر وسمى فحكمه وجوب الوفاء بما سمى ، بالكتاب العزيز والسنة والإجماع والمعقول .

                                                                                                                                ( أما ) الكتاب الكريم فقوله - عز شأنه - { وليوفوا نذورهم } ، وقوله تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } ، وقوله - سبحانه - : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ، والنذر نوع عهد من الناذر مع الله - جل وعلا - فيلزمه الوفاء بما عهد ، وقوله - جلت عظمته - { أوفوا بالعقود } أي العهود ، وقوله - عز شأنه - : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } إلى قوله تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه } ألزم الوفاء بعهده حيث أوعد على ترك الوفاء .

                                                                                                                                ( وأما ) السنة فقول النبي عليه الصلاة والسلام : { من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى } ، وعلى كلمة إيجاب ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { المسلمون عند شروطهم } ، والناذر شرط الوفاء بما نذر فيلزمه مراعاة شرطه ، وعليه إجماع الأمة .

                                                                                                                                ( وأما ) المعقول فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - بنوع من القرب المقصودة التي له رخصة تركها لما يتعلق به من المعاقبة الحميدة ، وهي نيل الدرجات العلى ، والسعادة العظمى في دار الكرامة ، وطبعه لا يطاوعه على تحصيله ، بل يمنعه عنه ; لما فيه من المضرة الحاضرة وهي المشقة ، ولا ضرورة في الترك فيحتاج إلى اكتساب سبب يخرجه عن رخصة الترك ، ويلحقه بالفرائض الموظفة ، وذلك يحصل بالنذر ; لأن الوجوب يحمله على التحصيل ; خوفا من مضرة الترك فيحصل مقصوده ، فثبت أن حكم النذر الذي فيه تسمية هو وجوب الوفاء بما سمى ، وسواء كان النذر مطلقا أو مقيدا معلقا بشرط بأن قال : إن فعلت كذا فعلي لله حج أو عمرة أو صوم أو صلاة أو ما أشبه ذلك من الطاعات ، حتى لو فعل ذلك يلزمه الذي جعله على نفسه ، ولم يجز عنه كفارة ، وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم .

                                                                                                                                وقال الشافعي رحمه الله : إن علقه بشرط يريد كونه لا يخرج عنه بالكفارة ، كما إذا قال : إن شفى الله مريضي ، أو إن قدم غائبي - فعلي كذا ، وإن علقه بشرط لا يريد كونه بأن قال : إن كلمت فلانا ، أو قال : إن دخلت الدار فلله علي [ ص: 91 ] كذا - يخرج عنه بالكفارة ، وهو بالخيار إن شاء وفى بالنذر ، وإن شاء كفر وأصحاب الشافعي رحمه الله يسمون هذا يمين الغصب .

                                                                                                                                وروى عامر عن علي بن معبد عن محمد رحمهم الله : أنه رجع عن ذلك وقال يجزئ فيه كفارة اليمين وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن أبي حنيفة رحمه الله : أنه يجزيه كفارة اليمين .

                                                                                                                                وروي أن أبا حنيفة - عليه الرحمة - رجع إلى الكفارة في آخر عمره ، فإنه روي عن عبد العزيز بن خالد أنه قال : قرأت على أبي حنيفة رحمه الله كتاب الأيمان ، فلما انتهيت إلى هذه المسألة قال : قف فإن من رأيي أن أرجع إلى الكفارة ، قال : فخرجت حاجا فلما رجعت وجدت أبا حنيفة - عليه الرحمة - قد مات ، فأخبرني الوليد بن أبان أن أبا حنيفة رجع عن الكفارة ; والمسألة مختلفة بين الصحابة : رضي الله عنهم روي عن علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن عليه الوفاء بما سمى ، وعن سيدنا عمر وعبد الله ابن سيدنا عمر وسيدتنا عائشة وسيدتنا حفصة رضي الله عنهم أن عليه الكفارة .

                                                                                                                                واحتج من قال بوجوب الكفارة بقوله - جلت عظمته - : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وقوله - جل شأنه - : { ذلك كفارة أيمانكم } وهذا يمين ; لأن اليمين بغير الله - تعالى جل شأنه - شرط وجزاء ، وهذا كذلك .

                                                                                                                                وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { النذر يمين وكفارته كفارة اليمين } ، وهذا نص ، ولأن هذا في معنى اليمين بالله - تعالى جل شأنه - ; لأن المقصد من اليمين بالله - تعالى - الامتناع من المحلوف عليه ، أو تحصيله خوفا من لزوم الحنث ، وهذا موجود ههنا ; لأنه إن قال : إن فعلت كذا فعلي حجة ، فقد قصد الامتناع من تحصيل الشرط ، وإن قال : إن لم أفعل كذا فعلي حجة ، فقد قصد تحصيل الشرط ، وكل ذلك خوفا من الحنث فكان في معنى اليمين بالله - تعالى - فتلزمه الكفارة عند الحنث .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله - جل شأنه - : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } الآية ، وغيرها من نصوص الكتاب العزيز والسنة المقتضية لوجوب الوفاء بالنذر عاما مطلقا من غير فصل بين المطلق والمعلق بالشرط ، والوفاء بالنذر هو فعل ما تناوله النذر لا الكفارة ; ولأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف تنجيزا كان أو تعليقا بشرط ; والمتصرف أوقعه نذرا عليه عند وجود الشرط وهو إيجاب الطاعة المذكورة لا إيجاب الكفارة ، واحتج أبو يوسف رحمه الله في ذلك وقال : القول بوجوب الكفارة يؤدي إلى وجوب القليل بإيجاب الكثير ، ووجوب الكثير بإيجاب القليل ; لأنه لو قال : إن فعلت كذا فعلي صوم سنة ، أو إطعام ألف مسكين - لزمه صوم ثلاثة أيام ، أو إطعام عشرة مساكين ، ولو قال : إن فعلت كذا فعلي صوم يوم ، أو إطعام مسكين - لزمه إطعام عشرة مساكين ، أو صوم ثلاثة ، ولا حجة لهم بالآية الكريمة ; لأن المراد بها اليمين بالله - عز شأنه - ; لأن الله - تعالى - أثبت باليمين المعقودة ما نفاه بيمين اللغو بقوله - تعالى جلت كبرياؤه - : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، والمراد من النفي اليمين بالله - تعالى - كذا في الإثبات ، والحديث محمول على النذر المبهم توفيقا بين الدلائل ، صيانة لها عن التناقض .

                                                                                                                                وأما قولهم : إن هذا في معنى اليمين بالله - تعالى - ممنوع بأن النذر المعلق بالشرط صريح في الإيجاب عند وجود الشرط ، واليمين بالله - تعالى - ليس بصحيح في الإيجاب ، وكذا الكفارة في اليمين بالله - تعالى - تجب جبرا لهتك حرمة اسم الله - عز اسمه - الحاصل بالحنث ، وليس في الحنث ههنا هتك حرمة اسم الله تعالى ، وإنما فيه إيجاب الطاعة ، فلم يكن في معنى اليمين بالله - تعالى - ، ثم الوفاء بالمنذور به نفسه حقيقة ، إنما يجب عند الإمكان ، فأما عند التعذر فإنما يجب الوفاء به تقديرا بخلفه ; لأن الخلف يقوم مقام الأصل ، كأنه هو ، كالتراب حال عدم الماء ، والأشهر حال عدم الإقراء ، حتى لو نذر الشيخ الفاني بالصوم ، يصح نذره ، وتلزمه الفدية ; لأنه عاجز عن الوفاء بالصوم حقيقة فيلزمه الوفاء به تقديرا بخلفه ، ويصير كأنه صام ، وعلى هذا يخرج أيضا النذر بذبح الولد ، أنه يصح عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - ومحمد رحمه الله ويجب ذبح الشاة ; لأنه إن عجز عن تحقيق القربة بذبح الولد حقيقة لم يعجز عن تحقيقها بذبحه تقديرا بذبح خلفه وهو الشاة ، كما في الشيخ الفاني إذا نذر بالصوم .

                                                                                                                                ( وأما ) وجوب الكفارة عند فوات المنذور به إذا كان معينا ، بأن نذر صوم شهر بعينه ، ثم أفطر فهل هو من حكم النذر ؟ فجملة الكلام فيه : أن الناذر لا يخلو إما إن قال ذلك ونوى النذر ولم يخطر بباله اليمين أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا ، أو لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين ، أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر ، أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون [ ص: 92 ] نذرا ، أو نوى النذر واليمين جميعا فإن لم يخطر بباله شيء لا النذر ولا اليمين ، أو نوى النذر ولم يخطر بباله اليمين ، أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا - يكون نذرا بالإجماع .

                                                                                                                                وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا ولا يكون نذرا بالاتفاق ، وإن نوى اليمين ولم يخطر بباله النذر ، أو نوى النذر واليمين جميعا - كان نذرا ويمينا في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف يكون يمينا ولا يكون نذرا ، والأصل عند أبي يوسف : لا يتصور أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا ، بل إذا بقي نذرا لا يكون يمينا ، وإذا صار يمينا لم يبق نذرا وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز أن يكون الكلام الواحد نذرا ويمينا .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف أن الصيغة للنذر حقيقة وتحتمل اليمين مجازا لمناسبة بينهما بكون كل واحد منهما سببا لوجوب الكف عن فعل ، أو الإقدام عليه ، فإذا بقيت الحقيقة معتبرة لم يثبت المجاز ، وإذا انقلب مجازا لم تبق الحقيقة ; لأن الكلام الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لما بينهما من التنافي ، إذ الحقيقة من الأسامي ما تقرر في المحل الذي وضع له ، والمجاز ما جاوز محل وضعه وانتقل عنه إلى غيره لضرب مناسبة بينهما ، ولا يتصور أن يكون الشيء الواحد في زمان واحد متقررا في محله ، ومنتقلا عنه إلى غيره .

                                                                                                                                ( ولهما ) أن النذر فيه معنى اليمين ; لأن النذر وضع لإيجاب الفعل مقصودا تعظيما لله تعالى ، وفي اليمين وجوب الفعل المحلوف عليه ، إلا أن اليمين ما وضعت لذلك ، بل لتحقيق الوعد والوعيد ، ووجوب الفعل لضرورة تحقق الوعد والوعيد لا أنه يثبت مقصودا باليمين ، لأنها ما وضعت لذلك ، وإذا كان وجوب الفعل فيها لغيره لم يكن الفعل واجبا في نفسه ، ولهذا تنعقد اليمين في الأفعال كلها ، واجبة كانت أو محظورة أو مباحة .

                                                                                                                                ولا ينعقد النذر إلا فيما لله - تعالى - من جنسه إيجاب ، ولهذا لم يصح اقتداء الناذر بالناذر لتغاير الواجبين ; لأن صلاة كل واحد منهما وجبت بنذره ، فتتغاير الواجبات ، ولم يصح الاقتداء ، ويصح اقتداء الحالف بالحالف ; لأن المحلوف عليه إذا لم يكن واجبا في نفسه كان في نفسه نفلا كأن اقتدى المتنفل بالمتنفل فصح ، وإذا ثبت أن المنذور واجب في نفسه ، والمحلوف واجب لغيره ، فلا شك أن ما كان واجبا في حق نفسه كان في حق غيره واجبا ، فكان معنى اليمين - وهو الوجوب لغيره - موجودا في النذر ، فكان كل نذر فيه معنى اليمين ، إلا أنه لا يعتبر لوقوع النسبة بوجوبه في حق نفسه عن وجوبه في حق غيره ، فإذا نواه فقد اعتبره فصار نذرا ويمينا .

                                                                                                                                وبه تبين أن ليس هذا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ; لأن المجاز ما جاوز محل الحقيقة إلى غيره لنوع مناسبة بينهما ، وهذا ليس من هذا القبيل بل هو من جعل ما ليس بمعتبر في محل الحقيقة مع وجوده وتقرره معتبرا بالنسبة ، فلم يكن من باب المجاز ، والدليل على أنه يجوز اشتمال لفظ واحد على معنيين مختلفين كالكتابة ، والإعتاق على مال - أن كل واحد منهما يشتمل على معنى اليمين ، ومعنى المعاوضة على ما ذكرنا في كتاب العتاق والمكاتب .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية