الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلا تطع المكذبين وذلك أن رؤساء أهل مكة دعوه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم "ودوا لو تدهن فيدهنون" فيه سبعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 331 ] والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: لو تلين فيلينون لك، قاله ابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس، لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون، قاله زيد بن أسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم . وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة .

                                                                                                                                                                                                                                      والسابع: لو تقاربهم فيقاربونك، قاله ابن كيسان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولا تطع كل حلاف وهو كثير الحلف بالباطل "مهين" وهو الحقير . الدنيء وروى العوفي عن ابن عباس قال: المهين: الكذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل . والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي . والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد . [ ص: 332 ] قوله تعالى: هماز قال ابن عباس: هو المغتاب . وقال ابن قتيبة: هو العياب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: مشاء بنميم أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيئ من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم "مناع للخير" فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: مناع للحقوق في ماله، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: معتد أي: ظلوم "أثيم" "فاجر" "عتل بعد ذلك" أي: مع ما وصفناه به . وفي "العتل" سبعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس . والثاني: أنه المتوفر الجسم، قاله الحسن . والثالث: الشديد الأشر، قاله مجاهد . والرابع: القوي في كفره، قاله عكرمة . والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير . والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء . والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 333 ] وفي "الزنيم" أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الدعي في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أن الزنيم: هو الملتصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . قال حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه الذي له زنمة مثل زنمة الشاة . وقال ابن عباس: نعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها . ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدعوة، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة . والزنمتان: المعلقتان عند حلوق المعزى . وقال ابن فارس: يعني التي تتعلق من أذنها .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أن كان ذا مال وبنين قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: "أن كان" على الخبر، أي: لأن كان . والمعنى: لا تطعه لماله وبنيه . وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة . والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر . وقرأ حمزة: "أأن كان" بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 334 ] أحدهما: لأن كان ذا مال تطيعه؟!

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! "إذا تتلى عليه آياتنا" يكفر بها؟ فيقول: "أساطير الأولين" ذكر القولين الفراء . وقرأ ابن مسعود: "أن كان" بهمزة واحدة مقصورة . ثم أوعده فقال تعالى: سنسمه على الخرطوم الخرطوم: الأنف . وفي هذه السمة ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: سنلحق به شيئا لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن المعنى: سنسود وجهه . قال الفراء: و"الخرطوم" وإن كان قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن البعض . وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم . وجائز - والله أعلم - أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين بها عن غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية