الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة جرى ذكر العقب هاهنا موصولا في المعنى بالحقب ، وذلك مما يدخل في الأحكام ، وتترتب عليه عقود العمرى أو التحبيس قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها } ; لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث . وهي ترد على أحد عشر لفظا قوله : اللفظ الأول الولد ، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد عن الرجل وامرأته من الذكور والإناث ، وعن ولد الذكور دون ولد الإناث لغة وشرعا ; ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد البنات ، لأنه من قوم آخرين ، وكذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ ; قاله مالك في المجموعة وغيرها .

                                                                                                                                                                                                              اللفظ الثاني البنون فإن قال : هذا حبس على ابني فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد . [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                                                              ولو قال : ولدي لتعدى وتعدد في كل من ولد . وإن قال : على بني دخل فيه الذكور والإناث . قال مالك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك .

                                                                                                                                                                                                              وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنت بنته تدخل في ذلك مع بنات صلبه .

                                                                                                                                                                                                              والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنت لا يدخلون في البنين .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن بن بنته : إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هذا مجاز ، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه . ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه ، فيقول الرجل في ولد بنته : ليس بابني ، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ; لأن الحقائق لا تنفى عن مسمياتها ، ألا ترى أنه ينسب إلى أبيه دون أمه ، ولذلك قيل في عبد الله بن عباس : إنه هاشمي ; وليس بهلالي ، وإن كانت أمه هلالية . اللفظ الثالث الذرية ، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق ، في الأشهر ، فكأنهم وجدوا عنه ونسبوا إليه .

                                                                                                                                                                                                              ويدخل فيه عند علمائنا ولد البنات ، لقوله تعالى : { ومن ذريته داود وسليمان } . إلى أن قال : { وزكريا ويحيى وعيسى } فإنما هو من ذريته من قبل أمه ; لأنه لا أب له . اللفظ الرابع العقب ، وهو في اللغة عبارة عن شيء جاء بعد شيء ، وإن لم يكن من جنسه ، يقال أعقب الله بخير ، أي جاء بعد الشدة بالرخاء . وأعقب الشيب السواد . والمعقاب من النساء التي تلد ذكرا بعد أنثى هكذا أبدا . وعقب الرجل ولده وولد ولده الباقون بعده . والعاقبة : الولد قال يعقوب : وفي القرآن : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } . وقيل : بل الورثة كلهم عقب . والعاقبة : الولد ، كذلك فسره مجاهد هاهنا . وقال ابن زيد هاهنا : هم الذرية .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن شهاب : هم الولد وولد الولد . [ ص: 88 ] وأما من طريق الفقه فقال ابن القاسم في المجموعة : العقب الولد ذكرا كان أم أنثى . وقال عبد الملك : وليس ولد البنات عقبا بحال .

                                                                                                                                                                                                              وقال محمد عن إبراهيم عن ابن القاسم ، عن مالك فيمن حبس على عقبه ولعقبه ولد فإنه يساوي بينهم وبين آبائهم للذكر والأنثى سواء ، ويفضل ذو العيال ، وهذا من قول ابن شهاب إنه الولد وولد الولد ، وليس ولد الابنة عقبا ولا ابنة الابنة .

                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي : إن كان المراد بالكلمة التوحيد ، فيدخل فيه الذكر والأنثى ، وإن كان المراد به الإمامة فلا يدخل فيه إلا الذكر وحده ; لأن الأنثى ليست بإمام . وقد بينا ذلك وأوضحناه ; وإنما لا يكون ولد البنات عقبا ولا ولدا إذا كان القول الأول : على ولدي أو عقبي مفردا ، وأما إذا تكرر فقال : على ولدي وولد ولدي ، وعلى عقبي وعقب عقبي ، فإنه يدخل ولد البنات فيه حسبما يذكر فيه ، ولا يدخل فيما بعده مثل قوله : أبدا ، ومثل قوله ما تناسلوا .

                                                                                                                                                                                                              اللفظ الخامس نسلي ، وهو عند علمائنا كقوله : ولد ولدي فإنه يدخل فيه ولد البنات ، ويجب أن يدخلوا ; لأن " نسل " بمعنى خرج ، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ، ولم يقترن به ما يخصه ، كما اقترن بقوله : عقبي ما تناسلوا ، حسبما تقدم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              اللفظ السادس الآل ، وهم الأهل . وهو اللفظ السابع . قال ابن القاسم : هما سواء ، وهم العصبة والإخوة والأخوات ، والبنات والعمات ، ولا يدخل فيه الخالات ، وأصل الأهل الاجتماع ، يقال مكان آهل إذا كان فيه جماعة ، وذلك بالعصبة ، ومن دخل في العقد ; والعصبة مشتقة منه ، وهي أخص به . وفي حديث الإفك : يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم إلا خيرا يعني عائشة ; ولكن لا تدخل الزوجة فيه بإجماع ، وإن كانت أصل التأهل ; لأن ثبوتها ليس بيقين ، وقد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق .

                                                                                                                                                                                                              وقد قال مالك : آل محمد كل تقي ، وليس من هذا الباب ، وإنما أراد أن الإيمان أخص من القرابة ، وقد اشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة . [ ص: 89 ] وقد قال أبو إسحاق التونسي : يدخل في الأهل من كان من جهة الأبوين فوفى الاشتقاق حقه ، وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال . وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو العرف المستعمل عند الإطلاق ، فهذان لفظان .

                                                                                                                                                                                                              اللفظ الثامن القرابة ، وفيها أربعة أقوال : الأول : قال مالك في كتاب محمد ، وابن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ، ولا يدخل فيه ولد البنات ، ولا ولد الخالات . الثاني يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه ; قاله علي بن زياد . الثالث : قال أشهب : يدخل فيه كل ذي رحم من الرجال والنساء . الرابع قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كانت بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ، فهذا يضبطه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              اللفظ التاسع : العشيرة ، ويضبطه الحديث الصحيح : { إن الله تعالى لما أنزل : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم } كما تقدم ذكره ، وهم العشيرة الأقربون ; وسواهم عشيرة في الإطلاق ، واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد ، كما تقدم من قول علمائنا . اللفظ العاشر القوم [ قال القرويون ] : يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء . والقوم يشتمل على الرجال والنساء ، وإن كان الشاعر قد قال :

                                                                                                                                                                                                              وما أدري وسوف أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 90 ] ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال ، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء ، فتعمه الصفة وتخصه القرينة . اللفظ الحادي عشر الموالي : قال مالك : يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه . وقال ابن وهب : يدخل فيه أولاد مواليه .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : والذي يتحصل فيه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء ; وهذه فصول الكلام وأصوله مرتبطة بظاهر القرآن ; والسنة المبينة له والتفريع والتتميم في كتب المسائل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية