الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ( 201 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( إن الذين اتقوا ) ، الله من خلقه ، فخافوا عقابه ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه ( إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، يقول : إذا ألم بهم لمم من الشيطان ، من غضب أو غيره مما [ ص: 334 ] يصد عن واجب حق الله عليهم ، تذكروا عقاب الله وثوابه ، ووعده ووعيده ، وأبصروا الحق فعملوا به ، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم ، وتركوا فيه طاعة الشيطان .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : " طيف " .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( طائف ) ، على مثال " فاعل " .

وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين : " طيف من الشيطان " .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين " الطائف " و" الطيف .

فقال بعض البصريين : " الطائف " و" الطيف " سواء ، وهو ما كان كالخيال والشيء يلم بك . قال : ويجوز أن يكون " الطيف " مخففا عن " طيف " مثل " ميت " و" ميت " .

وقال بعض الكوفيين : " الطائف " : ما طاف بك من وسوسة الشيطان . وأما " الطيف " : فإنما هو من اللمم والمس .

وقال أخر منهم : " الطيف " : اللمم ، و" الطائف " : كل شيء طاف بالإنسان .

وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : " الطيف " : الوسوسة .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ : ( طائف من الشيطان ) ، لأن أهل التأويل تأولوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به . وإذا كان ذلك معناه ، كان معلوما إذ كان " الطيف " إنما [ ص: 335 ] هو مصدر من قول القائل : " طاف يطيف " أن ذلك خبر من الله عما يمس الذين اتقوا من الشيطان ، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه ، وذلك كالغضب والوسوسة . وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزله عن طاعة ربه ، أو ليوسوس له . والوسوسة والاستزلال هو " الطائف من الشيطان " .

وأما " الطيف " فإنما هو الخيال ، وهو مصدر من " طاف يطيف " ، ويقول : لم أسمع في ذلك " طاف يطيف " ويتأوله بأنه بمعنى " الميت " وهو من الواو .

وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعا من العرب : " طاف يطيف " ، و" طفت أطيف " ، وأنشدوا في ذلك :


أنى ألم بك الخيال يطيف ومطافه لك ذكرة وشعوف



وأما التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله .

فقال بعضهم : ذلك " الطائف " هو الغضب .

ذكر من قال ذلك .

15555 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان ، عن [ ص: 336 ] أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : ( إذا مسهم طائف ) قال : و" الطيف " : الغضب .

15556 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : " إذا مسهم طيف من الشيطان " قال : هو الغضب .

15557 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : الغضب .

15558 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا ) قال : هو الغضب .

15559 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( طائف من الشيطان ) قال : الغضب .

وقال آخرون : هو اللمة والزلة من الشيطان .

ذكر من قال ذلك :

15560 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، و" الطائف " : اللمة من الشيطان ( فإذا هم مبصرون ) .

15561 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان ) [ ص: 337 ] ، يقول : نزغ من الشيطان ( تذكروا ) .

15562 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) ، يقول : إذا زلوا تابوا .

قال أبو جعفر : وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن " الغضب " من استزلال الشيطان ، و" اللمة " من الخطيئة أيضا منه ، وكل ذلك من طائف الشيطان . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى ، بل الصواب أن يعم كما عمه جل ثناؤه ، فيقال : إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان ، ما كان ذلك العارض ، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره .

وأما قوله : ( فإذا هم مبصرون ) ، فإنه يعني : فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه ، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان . كما : -

15563 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فإذا هم مبصرون ) ، يقول : إذا هم منتهون عن المعصية ، آخذون بأمر الله ، عاصون للشيطان .

التالي السابق


الخدمات العلمية