الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 37 ] سورة التكوير

                                                                                                                                                                                                                                      وهي مكية كلها بإجماعهم

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت .

                                                                                                                                                                                                                                      روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إذا الشمس كورت .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى: كورت أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 38 ] أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ذهبت، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلت .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: غورت، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسية: كوربكرد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسية كوربور .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنها تكور مثل تكوير العمامة، فتلف وتمحى، قاله أبو عبيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: ومعنى: " كورت " جمع ضوؤها، ولفت كما تلف العمامة . ويقال: كورت العمامة على رأسي أكورها: إذا لففتها . قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف ويرمى بها في البحر . وقيل: في النار . وقيل: تعاد إلى ما خلقت منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا النجوم انكدرت أي: تناثرت، وتهافتت . يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقض وإذا الجبال سيرت عن وجه الأرض، فاستوت مع الأرض وإذا العشار عطلت قال المفسرون وأهل اللغة: العشار: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أحسن زمان حملها، وهي تضع إذاوضعت لتمام في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يشغلهم عنها، وإنما [ ص: 39 ] خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل . ومعنى " عطلت " سيبت وأهملت، لاشتغالهم عنها بأهوال القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا الوحوش يعني: دواب البحر حشرت وفيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: جمعت إلى القيامة، قاله السدي . وقد زدنا هذا شرحا في [الأنعام: 111] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا البحار سجرت قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، " سجرت " بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المعنى ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أوقدت فاشتعلت نارا، قاله علي وابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: يبست، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: ملئت بأن صارت بحرا واحدا، وكثر ماؤها، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا النفوس زوجت فيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: قرنت بأشكالها، قاله عمر رضي الله عنه . الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ردت الأرواح إلى الأجساد، فزوجت بها، قاله الشعبي . وعن عكرمة كالقولين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 40 ] قوله تعالى: وإذا الموءودة سئلت قال اللغويون: الموؤودة: البنت تدفن وهي حية، وكان هذا من فعل الجاهلية . ويقال: وأد ولده، أي: دفنه حيا . قال الفرزدق:


                                                                                                                                                                                                                                      ومنا الذي منع الوائدا ت فأحيا الوئيد ولم يوأد



                                                                                                                                                                                                                                      يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جد الفرزدق . قال الزجاج: ومعنى سؤالها: تبكيت قاتليها في القيامة، لأن جوابها: قتلت بغير ذنب . ومثل هذا التبكيت قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟! [المائدة: 116] . وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو: " سألت " بفتح السين، وألف بعدها بأي ذنب قتلت بإسكان اللام، وضم التاء الأخيرة . وسؤالها هذا أيضا تبكيت لقاتليها . قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاما حبسته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإذا الصحف نشرت قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب " نشرت " بالتخفيف، والباقون بالتشديد . والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب وإذا السماء كشطت قال الفراء: نزعت، فطويت . وفي قراءة عبد الله: " قشطت " بالقاف، وهكذا تقوله قيس، وتميم، وأسد: بالقاف . وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد . [ ص: 41 ] والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط . وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يقال: حدث، وحدت . قال ابن قتيبة: كشطت كما يكشط الغطاء عن الشيء، فطويت . وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف . و سعرت أوقدت . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " سعرت " مشددة . قال الزجاج: المعنى واحد . إلا أن معنى المشدد: أوقدت مرة بعد مرة . و أزلفت قربت من المتقين . وجواب هذه الأشياء علمت نفس ما أحضرت أي: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبت على قدر عملها . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى: علمت نفس ما أحضرت : لهذا جرى الحديث . وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية