الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 11 ] 219 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : كل مولود يولد على الفطرة مما ينفرد به بعض رواته بأنه قال : فما يزال عليها حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه .

1391 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره ، أن أبا هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يقول : اقرؤوا : فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } .

[ ص: 12 ]

1392 - حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة ، هل يكون فيها جدعاء ؟} .

1393 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، [ ص: 13 ] عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه أو يمجسانه ويكفرانه ، قيل : يا رسول الله ، الذي يموت حين يولد ؟ قال الله أعلم بما كانوا عاملين } . قال أبو جعفر : فكل ما روينا من هذه فمرجعه إلى أبي هريرة .

1394 - وقد حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي ، قال : حدثنا السري بن يحيى ، عن الحسن ، قال : حدث الأسود بن سريع ، وكان أول من قص في هذا المسجد ، قال : { غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات ، فتناول أصحابه الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد ذلك عليه ، فقال : ألا ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثم تناولوا الذرية ؟ فقال رجل : يا رسول الله ، أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخياركم أبناء المشركين ، أما إنه ليست تولد نسمة إلا ولدت على الفطرة ، فما يزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها .

[ ص: 14 ]

1395 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني السري بن يحيى ، ثم ذكر بإسناده مثله .

قال أبو جعفر : غير أنا لما تأملنا هذا الحديث وجدنا فيه قال : حدث الأسود بن سريع ، قال : { كنا في غزاة لنا فأصبنا وقتلنا في المشركين حتى بلغ بهم القتل إلى أن يقتلوا الذرية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال أقوام بلغ بهم القتل إلى أن قتلوا الذرية ، ألا لا تقتلن ذرية ، ألا لا تقتلن ذرية . قيل : لم يا رسول الله ، أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : أوليس أخياركم أولاد المشركين } .

1396 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثنا حسين بن يونس الزيات . قال أبو جعفر : وهو الكوفي ، وهو مشهور ثقة ، وحدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، أن الأسود بن سريع حدثهم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا ، فأفرطوا في قتل المشركين حتى تناولوا الذرية ، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام أفرطوا في القتل حتى تناولوا الذرية ، فقالوا : يا رسول الله ، أوليسوا أولاد المشركين ؟ فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أوليس خياركم أولاد المشركين ؟} . [ ص: 15 ] فبان لنا بهذين الحديثين ، أن الحسن حدث بما فيهما ، وبما في الحديث الذي قبلهما من حديث الأسود ، عن الأسود سماعا .

1397 - وقد حدثنا الهروي محمد بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن الأسود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها } .

قال أبو جعفر : فتأملنا ما قيل في تأويل هذا الحديث فوجدنا علي بن عبد العزيز قد أجاز لنا عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : سألت محمد بن الحسن ، عن تفسير هذا الحديث - يعني : حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في أول هذا الباب - فقال : كان ذلك في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد .

قال أبو عبيد : كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن يهوده أبواه أو ينصرانه ما ورثاه ؛ لأنه مسلم وهما كافران ، ولما جاز مع ذلك أن يسبى ، فلما نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف [ ص: 16 ] ذلك دل على أنه مولود على دينهما .

قال أبو عبيد : وأما عبد الله بن المبارك فبلغني أنه سئل عن تأويله ، فقال : تأويله الحديث الآخر { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، عن أطفال المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين } ، يذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر ، فمن كان في علم الله عز وجل أنه يصير مسلما ، فإنه يولد على الفطرة ، ومن كان علمه فيه أنه يصير كافرا يموت كافرا . قال أبو عبيد : وأحد التفسيرين قريب من الآخر .

[ ص: 17 ] قال أبو جعفر : فتأملنا ما قد ذكرناه عن محمد بن الحسن مما جنح إليه أبو عبيد ، فوجدنا في حديث الأسود بن سريع الذي رويناه مما قد دفع ذلك ؛ لأن محمدا أخبر أن ذلك القول قبل أن يفترض الجهاد ، وفي حديث الأسود ، أنه كان في غزوة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي الجهاد ، ثم لما اختلفوا في معنى هذا الحديث على ما قد ذكرنا ، وقالوا في تأويله ما قد وصفنا بعد جعلنا إياه كله حديثا واحدا ، وأثبتنا فيه قوله صلى الله عليه وسلم فما يزال عليها حتى يعرب عنه لسانه اعتبرنا ما جاء من ذكر الفطرة في كتاب الله عز وجل ، فوجدنا الله عز وجل قد قال في كتابه : الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، أي : خالق السموات والأرض ، وكذلك حدثنا ولاد النحوي ، عن [ ص: 18 ] المصادري ، عن أبي عبيدة ، وقال عز وجل فيه أيضا : وما لي لا أعبد الذي فطرني ، أي : الذي خلقني ، وقال عز وجل : فطرت الله التي فطر الناس عليها ، أي : ملة الله التي خلق الناس عليها ، وكذلك أيضا حدثنا ولاد النحوي ، عن المصادري ، عن أبي عبيدة في أشياء من هذه المعاني .

وكانت الفطرة فطرتين : فطرة يراد بها الخلقة التي لا تعبد معها ، وفطرة معها التعبد المستحق بفعله الثواب ، والمستوجب بتركه العقاب ، وكان قوله صلى الله عليه وسلم : { كل مولود يولد على الفطرة } ، يريد الفطرة المتعبد أهلها المثابون والمعاقبون ، فكان أهلها الذين هم كذلك ما كانوا غير بالغين ممن خلق للعبادة ، كما قال عز وجل : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإن كانوا قبل بلوغهم مرفوعا عنهم الثواب والعقاب ، غير أنهم إذا عبرت عنهم ألسنتهم بشيء من إيمان أو من كفر كانوا من أهله ، وإن كانوا غير مثابين على محموده وغير معاقبين على مذمومه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : { فما يزال عليها حتى يعرب عنه لسانه } ؛ [ ص: 19 ] ولذلك قبل صلى الله عليه وسلم إسلام من لم يبلغ ، وأدخله في جملة المسلمين ، وفي ذلك ما يوجب خروج من كان من المسلمين بالردة في تلك الحال من الإسلام حتى يستحق بذلك المنع من الميراث من أبويه المسلمين ، وقال صلى الله عليه وسلم : { فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه } .

أي : بتهويدهما أو بنصرانيتهما أو بشركهما ، فيكون سبيا إن كان أبواه حربيين ، ومأخوذا بعد بلوغه عاقلا بالجزية إن كان أبواه ذميين ، فهذا عندنا تأويل ما قد رويناه والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية