الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الوضوء من مس المرأة

                                                                                                                                            248 - ( قال الله تعالى : { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقرئ أو لمستم وعن معاذ بن جبل قال : { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله هذه الآية : { وأقم الصلاة طرفي [ ص: 246 ] النهار وزلفا من الليل } الآية . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : توضأ ثم صل } رواه أحمد والدارقطني ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والبيهقي جميعا من حديث عبد الملك بن عمر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ هكذا عندهم جميعا موصولا بذكر معاذ وفيه انقطاع ; لأن عبد الرحمن لم يسمع من معاذ . وأيضا قد رواه شعبة عن عبد الرحمن قال : ( إن رجلا ) فذكره مرسلا كما رواه النسائي . وأصل القصة في الصحيحين وغيرهما بدون الأمر بالوضوء والصلاة . والآية المذكورة استدل بها من قال بأن لمس المرأة ينقض الوضوء ، وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وابن عمر والزهري والشافعي وأصحابه وزيد بن أسلم وغيرهم .

                                                                                                                                            وذهب علي وابن عباس وعطاء وطاوس والعترة جميعا وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا ينقض . قال أبو حنيفة وأبو يوسف : إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر وإن لم يمذ . قال الأولون : الآية صرحت بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء وهو حقيقة في لمس اليد . ويؤيد بقاءه على معناه الحقيقي قراءة أو لمستم فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع قال الآخرون : يجب المصير إلى المجاز وهو أن اللمس مراد به الجماع لوجود القرينة وهي حديث عائشة الذي سيأتي في التقبيل وحديثها في لمسها لبطن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن في حديث التقبيل ضعفا .

                                                                                                                                            وأيضا فهو مرسل ورد بأن الضعف منجبر بكثرة رواياته وبحديث لمس عائشة لبطن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت مرفوعا وموقوفا ، والرفع زيادة يتعين المصير إليها كما هو مذهب أهل الأصول ، والاعتذار عن حديث عائشة في لمسها لقدمه صلى الله عليه وسلم بما ذكره ابن حجر في الفتح من أن اللمس يحتمل أنه كان بحائل أو على أن ذلك خاص به تكلف ومخالفة للظاهر .

                                                                                                                                            قالوا : أمر النبي صلى الله عليه وسلم السائل في حديث الباب بالوضوء ، وصرح ابن عمر بأن من قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء ، رواه عنه مالك والشافعي ، ورواه البيهقي عن ابن مسعود بلفظ : { القبلة من اللمس وفيها الوضوء واللمس ما دون الجماع } .

                                                                                                                                            واستدل الحاكم على أن المراد باللمس ما دون الجماع بحديث عائشة ( ما كان أو قل يوم إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيقبل ويلمس ) الحديث ، واستدل البيهقي بحديث أبي هريرة { اليد زناها اللمس } وفي قصة ماعز : { لعلك قبلت أو لمست } وبحديث عمر : { القبلة من اللمس فتوضئوا منها } ويجاب عن ذلك بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل بالوضوء يحتمل أن ذلك لأجل المعصية .

                                                                                                                                            وقد ورد أن الوضوء من مكفرات الذنوب ، أو لأن الحالة التي وصفها مظنة خروج المذي ، أو هو طلب لشرط الصلاة المذكورة في الآية من غير نظر إلى انتقاض الوضوء وعدمه ، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال . وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود وما ذكره الحاكم والبيهقي فنحن لا ننكر [ ص: 247 ] صحة إطلاق اللمس على الجس باليد بل هو المعنى الحقيقي ، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز . وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع ، وقد صرح البحر ابن عباس الذي علمه الله تأويل كتابه واستجاب فيه دعوة رسوله بأن اللمس المذكور في الآية هو الجماع وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره لتلك المزية .

                                                                                                                                            ويؤيد ذلك قول أكثر أهل العلم : إن المراد بقول بعض الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن امرأته لا ترد يد لامس ) الكناية عن كونها زانية ، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم ( طلقها ) وقد أبدى بعضهم مناسبة في الآية تقضي بأن المراد بالملامسة الجماع ولم أذكرها هنا لعدم انتهاضها عندي .

                                                                                                                                            وأما حديث الباب فلا دلالة فيه على النقض ; لأنه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد انتقض وضوءه .

                                                                                                                                            249 - ( وعن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ } رواه أبو داود والنسائي ، قال أبو داود : هو مرسل . إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة . وقال النسائي : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا ) .

                                                                                                                                            وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وقال : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يضعف هذا الحديث . وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عروة بن الزبير عن عائشة . وأخرجه أيضا أبو داود من طريق عروة المزني عن عائشة . وقال القطان : هذا الحديث شبه لا شيء .

                                                                                                                                            وقال الترمذي : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة . وقال ابن حزم : لا يصح في الباب شيء وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس . ورواه الشافعي من طريق معبد بن نباتة عن محمد بن عمر عن ابن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ } قال : ولا أعرف حال معبد فإن كان ثقة فالحجة فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ : روي من عشرة أوجه أوردها البيهقي في الخلافيات وضعفها انتهى .

                                                                                                                                            وصححه ابن عبد البر وجماعة وشهد له حديثها الآتي بعد هذا .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء ، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه .

                                                                                                                                            250 - ( وعن { عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني [ ص: 248 ] لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله } رواه النسائي ) . الحديث قال الحافظ في التلخيص : إسناده صحيح وفيه دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء وقد تقدم الكلام عليه .

                                                                                                                                            وتأويل ابن حجر له بما سلف قد عرفناك أنه تكلف لا دليل عليه .

                                                                                                                                            251 - ( وعن عائشة قالت : { فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على باطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } رواه مسلم والترمذي وصححه ) . الحديث رواه البيهقي أيضا وذكره ابن أبي حاتم في العلل من طريق يونس بن خباب عن عيسى بن عمر عن عائشة بنحو هذا . قال : لا أدري عيسى أدرك عائشة أم لا .

                                                                                                                                            وروى مسلم في آخر الكتاب عن عائشة قالت : { خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندنا ليلا فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال : ما لك يا عائشة أغرت ؟ قالت : وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال : لقد جاءك شيطانك فقالت : يا رسول الله أو معي شيطان ؟ } الحديث .

                                                                                                                                            وروى الطبراني في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت { : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت : إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي فأدخلت يدي في شعره لأنظر أغتسل أم لا ، فلما انصرف ، قال : أخذك شيطانك يا عائشة } وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة .

                                                                                                                                            قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أن اللمس غير موجب للنقض ، وقد ذكرنا الخلاف فيه . قال المصنف رحمه الله تعالى: وأوسط مذهب يجمع بين هذه الأحاديث مذهب من لا يرى اللمس ينقض إلا لشهوة انتهى .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية