الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ( 17 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش : فلم تقتلوا المشركين ، أيها المؤمنون ، أنتم ، ولكن الله قتلهم .

وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه ، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين ، إذ كان جل ثناؤه هو مسبب قتلهم ، وعن أمره كان قتال المؤمنين إياهم . ففي ذلك أدل الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صنع به وصلوا إليها . [ ص: 442 ]

وكذلك قوله لنبيه عليه السلام : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، فأضاف الرمي إلى نبي الله ، ثم نفاه عنه ، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي ، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرمي به إلى الذين رموا به من المشركين ، والمسبب الرمية لرسوله .

فيقال للمنكرين ما ذكرنا قد علمتم إضافة الله رمي نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه ، بعد وصفه نبيه به ، وإضافته إليه ، وذلك فعل واحد ، كان من الله تسبيبه وتسديده ، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذف والإرسال ، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة : من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى ؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15817 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( فلم تقتلوهم ) ، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا : " قتلت " ، وهذا : " قتلت " ( وما رميت إذ رميت ) ، قال لمحمد حين حصب الكفار .

15818 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

15819 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن [ ص: 443 ] قتادة : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، قال : رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر .

15820 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما وقع منها شيء إلا في عين رجل .

15821 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة قال : لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال : هذه مصارعهم ! ووجد المشركون النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه ، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه قريش قد جاءت بجلبتها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني ! " . فلما أقبلوا استقبلهم ، فحثا في وجوههم ، فهزمهم الله عز وجل .

15822 - حدثنا أحمد بن منصور قال ، حدثنا يعقوب بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا . [ ص: 444 ]

15823 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس ، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : " شاهت الوجوه ! " ، فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، الآية ، إلى : ( إن الله سميع عليم ) .

15824 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما رميت إذ رميت ) ، الآية ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار ، فهزموا عند الحجر الثالث . [ ص: 445 ]

15825 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي : " أعطني حصا من الأرض " ، فناوله حصى عليه تراب ، فرمى به وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، فذكر رمية النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) .

15826 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : " شاهت الوجوه ! " ، وانهزموا ، فذلك قول الله عز وجل : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) .

15827 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قال : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال : يا رب ، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ! فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب ! فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .

15728 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، أي : لم يكن ذلك برميتك ، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك ، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله . [ ص: 446 ]

وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال ، وهو ما :

15829 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري : ( وما رميت إذ رميت ) ، قال : جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : " آلله محيي هذا ، يا محمد ، وهو رميم ؟ " ، وهو يفت العظم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يحييه الله ، ثم يميتك ، ثم يدخلك النار ! قال : فلما كان يوم أحد قال : والله لأقتلن محمدا إذا رأيته ! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله . [ ص: 447 ] [ ص: 448 ]

وأما قوله : ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) ، فإن معناه : وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم ، ويغنمهم ما معهم ، ويكتب لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وذلك " البلاء الحسن " ، رمي الله هؤلاء المشركين ، ويعني ب " البلاء الحسن " ، النعمة الحسنة الجميلة ، وهي ما وصفت وما في معناه .

15830 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال في قوله : ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) ، أي ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم ، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، وليشكروا بذلك نعمته .

وقوله : ( إن الله سميع عليم ) ، يعني : إن الله سميع ، أيها المؤمنون ، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ومناشدته ربه ، ومسألته إياه إهلاك عدوه وعدوكم ، فقيل له : إن يك إلا جحش ! قال : أليس قال : أنا أقتلك ؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا ! " [ ص: 449 ]

ولقيلكم وقيل جميع خلقه " عليم " ، بذلك كله ، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده ، وغير ذلك من الأشياء ، محيط به ، فاتقوه وأطيعوا أمره وأمر رسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية