الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 241 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن لم يتيقن ولكن تغير اجتهاده فظن أن الذي توضأ به كان نجسا قال أبو العباس : يتوضأ بالثاني كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده ، والمنصوص في حرملة أنه لا يتوضأ بالثاني لأنا لو قلنا إنه يتوضأ به ولم يغسل ما أصابه الماء الأول من ثيابه وبدنه أمرناه أن يصلي وعلى بدنه نجاسة بيقين وهذا لا يجوز ، وإن قلنا : إنه يغسل ما أصابه من الماء الأول نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد وهذا لا يجوز ، ويخالف القبلة فإن هناك لا يؤدي إلى الأمر بالصلاة إلى غير القبلة ولا إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، وإذا قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه ، وإن قلنا بالمنصوص أنه يتيمم ويصلي ، وهل يعيد الصلاة ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه لا يعيد لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع فصار وجوده كعدمه كما لو تيمم ومعه ماء يحتاج إليه للعطش ( والثاني ) يعيد لأنه تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته ( والثالث ) وهو قول أبي الطيب بن سلمة : إن كان قد بقي من الأول بقية أعاد لأن معه ماء طاهرا بيقين ، وإن لم يكن بقي من الأول شيء لم يعد لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذه المسألة لها مقدمة لم يذكرها المصنف وقد ذكرها أصحابنا فقالوا : إذا غلب على ظنه طهارة أحدهما فقد سبق أنه يستحب إراقة الآخر ، فلو خالف فلم يرقه حتى دخل وقت الصلاة الثانية فهل يلزمه إعادة الاجتهاد للصلاة الثانية ؟ ينظر فإن كان على الطهارة الأولى لم يلزمه بلا خلاف بل يصلي بها ، وإن كان قد أحدث نظر إن بقي من الذي ظن طهارته شيء لزمه إعادة الاجتهاد ، صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي في كتابيه وصاحب الشامل وغيرهم من العراقيين والقاضي حسين وصاحباه صاحبا التتمة والتهذيب وغيرهم من الخراسانيين ، وقاسوه على إعادة الاجتهاد في القبلة للصلاة ، وعلى القاضي والمفتي إذا اجتهد في قضية وحكم بشيء ثم حضرت مرة أخرى يلزمه أن يعيد الاجتهاد . وفي هذه المسائل المقيس عليها وجه مشهور ، أنه لا يجب إعادة الاجتهاد بل له أن يصلي ، ويحكم بمقتضى الاجتهاد الأول ما لم يتغير اجتهاده ، وينبغي [ ص: 242 ] أن يجيء ذاك الوجه هنا وهو أولى ، وإن لم يبق من الذي ظن طهارته شيء ففي وجوب إعادة الاجتهاد في الآخر طريقان ( أحدهما ) : أنه على الوجهين فيما إذا انقلب أحد الإناءين قبل الاجتهاد هل يجتهد في الباقي ؟ وقد سبق . وبهذا الطريق قطع المتولي .

                                      ( والثاني ) وهو المذهب لا يعيد الاجتهاد وجها واحدا وبهذا قطع الماوردي والبغوي والرافعي وغيرهم . إذا عرفت هذه المقدمة فدخل وقت صلاة أخرى فأعاد الاجتهاد فان ظن طهارة الأول فلا إشكال فيتوضأ ببقيته إن كان منه بقية ويصلي ، وإن ظن طهارة الثاني فقد نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : لا يتوضأ بالثاني ولكن يصلي بالتيمم ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم ، وكذا نقل حرملة عن الشافعي أنه لا يتوضأ بالثاني ، فقال جمهور الأصحاب : الذي نقله المزني وحرملة هو المذهب ، وقال أبو العباس بن سريج هذا الذي نقله المزني لا يعرف للشافعي وقد غلط المزني على الشافعي ، والذي يجيء على قياس الشافعي أنه يتوضأ بالثاني كالقبلة . واتفق جمهور أصحابنا المصنفين في الطريقتين على أن الصواب والمذهب ما نقله المزني وحرملة ، وأن ما قاله أبو العباس ضعيف وضعفوه بما ضعفه به المصنف وهو ظاهر . قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : أبى أصحابنا أجمعون ما قال أبو العباس قال : وقالوا هذا من زلات أبي العباس ، قال : قال أبو الطيب بن سلمة ما غلط المزني لأن الشافعي نص على هذا في حرملة ، قال أبو حامد : لا يحتاج إلى حرملة فإن الشافعي نص عليها في الأم في باب الماء يشك فيه ، وقال صاحب الحاوي : مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أنه لا يجوز استعمال بقية الأول ولا يجوز استعمال الثاني وخالفهم أبو العباس ، وكذا قال المحاملي خالف سائر أصحابنا أبا العباس في هذا ، وقالوا : المذهب أنه لا يتوضأ بالثاني . فهذا كلام أعلام الأصحاب .

                                      وقد جزم جماعة من المصنفين بالمنصوص ، منهم القاضي حسين والبغوي وآخرون ولم يعرجوا على قول أبي العباس لشدة ضعفه ، وشذ الغزالي عن الأصحاب أجمعين فرجح قول أبي العباس وليس بشيء فلا يغتر به . قال أصحابنا : فإن قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني ولا بد من إيراد [ ص: 243 ] الماء على جميع المواضع التي ورد عليها الماء الأول لئلا يكون مستعملا للنجاسة بيقين وممن صرح بهذا الفوراني وإمام الحرمين وصاحب الشامل والغزالي والرافعي وآخرون ، قال صاحب الشامل : ينبغي أن يغسل ما أصابه الماء الأول في غير مواضع الوضوء ، لأن مواضع الوضوء يطهرها الماء عن الحدث والنجس جميعا ، قال : ولا يكون ذلك نقضا للاجتهاد بالاجتهاد ; لأنا لا نحكم ببطلان طهارته الأولى ولا صلاته بها . وإنما أمرناه بغسل ما غلب على ظنه نجاسته كما أمرناه باجتناب بقية الماء الأول وحكمنا بنجاسته ، ولا يقال : هو نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهذا الذي قاله صاحب الشامل رحمه الله من أنه في أعضاء الوضوء يكفيه إمرار الماء مرة واحدة عن الحدث والنجس هو ظاهر كلام الغزالي أيضا ، وقال الرافعي : لا بد من غسلها مرتين ، مرة عن الحدث ومرة عن النجس .

                                      وهذا الذي ذكره الرافعي خلاف قول الأصحاب في حكاية مذهب ابن سريج كما ذكرناه عن صاحب الشامل والغزالي ، وقد قدمنا أن العضو الذي تيقنا نجاسته يكفي غسله مرة واحدة عن الحدث والنجس على الأصح من الوجهين ، فهنا أولى إذا لم تتيقن نجاسته ، وعلى الجملة قول ابن سريج هنا ضعيف جدا والله أعلم . ولا يجب قضاء الصلاة الأولى ولا الثانية على قول ابن سريج ، وأما إذا قلنا بالمنصوص فإنه لا يجوز له استعمال الماء الثاني ولا بقية الأول . بل يتيمم ويصلي ، وفي وجوب إعادة هذه الصلاة التي صلاها بالتيمم الأوجه الثلاثة التي ذكرها المصنف ، أصحها الثالث وهو أنه إن كان بقي من الأول بقية لزمه الإعادة وإلا فلا ، والمراد بهذه البقية بقية يجب استعمالها بأن تكون كافية لطهارته أو غير كافية وقلنا : يجب استعمالها وهو أصح القولين كما سيأتي في كتاب التيمم إن شاء الله تعالى . فإن كانت البقية غير كافية لطهارته وقلنا لا يجب استعمالها فهي كالمعدومة ، صرح به إمام الحرمين وآخرون وهو واضح ، وأجاب الأصحاب عن قول القائل الآخر إنه ممنوع من استعمال هذا الماء فقالوا : هو قادر على إسقاط الإعادة بأن يريقهما فهو مقصر بترك الإراقة ، وهذا الخلاف إنما هو في [ ص: 244 ] وجوب إعادة الصلاة الثانية التي صلاها بالتيمم . فأما الأولى فلا تجب إعادتها بلا خلاف وسواء قلنا بالمنصوص أو بقول ابن سريج اتفق أصحابنا على هذا إلا الدارمي فإنه شذ عنهم فقال في وجوب إعادة الصلاتين ثلاثة أوجه ( أحدها ) تجب إعادتهما جميعا ( والثاني ) تجب إعادة الأولى فقط ( والثالث ) تجب إعادة الثانية فقط . وهذا الذي شذ به الدارمي وانفرد به عن الأصحاب ضعيف أو باطل وأظنه اشتبه عليه وكيف كان فهو خطأ لا يلتفت إليه ، وإنما أذكر مثله لأبين فساده لئلا يغتر به والله أعلم .

                                      ( فرع ) : لو أراد من جرى له تغير الاجتهاد أن لا يلزمه إعادة الصلاة بلا خلاف تفريعا على المنصوص أراق الماء الثاني والبقية وتيمم وصلى ولا إعادة قطعا لأنه معذور في الإراقة لا كمن أراقه سفها ، قال إمام الحرمين : ولو صب أحدهما في الآخر فكالإراقة فيتيمم ويصلي بلا إعادة ، وقال : ولو صب الثاني وأبقى بقية الأول تيمم وصلى ولا إعادة لأنه ليس معه ماء متيقن الطهارة ولا مظنونها ، ولو صب البقية وترك الثاني ففي الإعادة الوجهان المذكوران في الكتاب والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا حال بينه وبين الماء سبع ونحوه فإنه لا إعادة قطعا وهنا خلاف أنه في مسألة السبع متيقن المانع ولا طريق له ، وهنا مقصر بترك الإراقة والله أعلم .

                                      ( فرع ) أبو الطيب بن سلمة هذا أول موضع ذكر فيه في المهذب واسمه محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي من كبار أصحابنا تفقه على ابن سريج صنف كتبا كثيرة توفي في المحرم سنة ثمان وثلاثمائة رحمه الله




                                      الخدمات العلمية