الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب السادس في مسائل منثورة تتعلق بأدب القضاء والشهادات والدعاوى ؛ لأنها يتعلق بعضها ببعض .

                                                                                                                                                                        يوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم مجلس الحكم ، لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب المنبر حتى يفرغ من الصلاة ، واليهودي يحضر يوم السبت ، ويكسر عليه سبته .

                                                                                                                                                                        شهد اثنان أنه غصب كذا ، أو سرقه غدوة ، وآخران أنه غصبه ، أو سرقه عشية ، تعارضتا ولا يحكم بواحدة منهما ، بخلاف ما لو شهد واحد هكذا ، وآخر هكذا حيث يحلف مع أحدهما ، ويأخذ الغرم ؛ لأن الواحد ليس بحجة فلا تعارض .

                                                                                                                                                                        شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار ، وآخر على إتلاف [ ص: 90 ] ذلك الثوب بعينه ، وقال قيمته ثمن دينار ، يثبت الأقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر . ولو شهد بدل الواحد والواحد اثنان واثنان ثبت الأقل أيضا وتعارضتا في الزيادة . ولو شهد اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه نصف دينار ، وآخران أن وزنه دينار ، ثبت الدينار ؛ لأن مع شاهديه زيادة علم ، بخلاف الشهادة على القيمة ، فإن مدركها الاجتهاد ، وقد يقف شاهد القليل على عيب . ولو ادعى عبدا في يد رجل ، وأقام بينة أنه ولد أمته ، لم يقض له بها ، فقد تلد قبل أن تملكها ، فإن شهدت أنه ولد أمته ولدته في ملكه فنص أنه يقضى له بهذه البينة ، وبه قطع الجمهور ، وخرج ابن سريج قولا ؛ لأنها شهادة بملك سابق ، والمذهب الأول ؛ لأن النماء تابع للأصل . ولو شهدوا أن هذه الشاة نتجت في ملكه ، وهذه الثمرة حصلت في ملكه ، فهو كقولهم : ولدته أمته في ملكه ، ولا يكفي نتاج شاته ، وثمر شجرته . ولو شهدوا أن هذا الغزل من غزله ، أو الفرخ من بيضه ، والدقيق من حنطته ، أو الخبز من دقيقه ، كفى ؛ لأن ذلك عين ماله تغيرت صفته ، بخلاف ولد الجارية والشاة . ولو أقام بينة على رق شخص ، وأقام المدعى عليه بينة أنه حر الأصل ، فبينة المدعي أولى ؛ لأن معها زيادة علم وهو إثبات الرق . ولو ادعى دينا ، وشهد به اثنان ، لكن قال أحدهما متصلا بشهادته : إنه قضاه ، أو أبرئ منه ، فشهادته باطلة للقضاء ، وإن ذكره مفصولا عن الشهادة ، فإن كان بعد الحكم لم يؤثر . وللمدعى عليه أن يحلف معه على القضاء والإبراء وإن كان قبل الحكم ، سئل : متى قضاه ؟ فإن قال : قبل أن شهدت ، [ ص: 91 ] فكذلك الجواب عند ابن القاص . وذكر فيما إذا شهد على إقراره بالدين شاهدان ، ثم عاد أحدهما ، وقال : قضاه أو أبرأه بعد أن شهدت أن شهادته لا تبطل ، بل يحكم بالدين ويؤخذ ، إلا أن يحلف المدعى عليه مع شاهد القضاء والإبراء . والفرق أن هناك شهد على نفس الحق ، والقضاء والإبراء ينافيانه ، فبطلت الشهادة ، وهنا شهد على الإقرار ، والقضاء والإبراء لا ينافيانه ، فلا تبطل الشهادة . وحكي وجه أن شهادته على نفس الحق لا تبطل أيضا ، والصحيح الأول ، ويقرب من هذا الخلاف ، الخلاف فيما لو ادعى ألفا ، وشهد له شاهدان بألف مؤجل ، لكن قال أحدهما : قضى منه خمسمائة ، ففي وجه : لا تصح شهادتهما إلا في خمسمائة ، لكن للمدعي أن يحلف لباقي الألف مع الشاهد الآخر . وفي وجه : تصح شهادتهما على الألف ، وللمدعى عليه أن يحلف مع شاهد القضاء . وفي وجه ثالث : لا يثبت بشهادتهما شيء ؛ لأنهما لم يتفقا على ما ادعاه ، ويقرب منه قولان عن ابن سريج فيما لو شهد اثنان أن فلانا وكل فلانا ، ثم قال أحدهما : عزله بعد أن شهدت ، ففي قول : تبطل شهادته . وفي قول : تثبت شهادة الوكالة ، فيعمل بها ، والعزل لا يثبت بواحد .

                                                                                                                                                                        ادعى شريكان فأكثر حقا على رجل فأنكر ، يحلف لكل واحد يمينا ، فإن رضي بيمين واحدة ، ففي جوازه وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : المنع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو شهد اثنان أنه أوصى بعتق غانم ، وهو ثلث ماله ، فحكم الحاكم بعتقه ، ثم رجعا عن الشهادة ، وشهد آخران أنه أوصى بعتق سالم ، وهو ثلث ماله ، ولم يجز الورثة إلا الثلث ، قال البغوي : يقرع بينهما ، فإن خرجت القرعة للأول رق الثاني ، ويغرم الراجعان قيمة [ ص: 92 ] الأول للورثة . وإن خرجت للثاني عتق ورق الأول ، ولا غرم على الراجعين ؛ لأنهما لم يتلقياه . قال : وعندي يعتق الثاني بلا قرعة ، وعلى الراجعين قيمة الأول للورثة . ولو شهد رجل أنه وكله بكذا ، وآخر أنه فوضه إليه ، أو سلطه عليه ، ثبتت الوكالة . ولو شهد أحدهما أنه قال : وكلتك بكذا ، والآخر أنه أقر بوكالته ، لم يثبت شيء ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالبيع ، والآخر أنه وكله بالبيع وقبض الثمن ثبت البيع . ولو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه هذا العبد ، ونقده الثمن وأعتقه ، وأقام به بينة ، وادعى آخر أنه اشتراه ونقد الثمن ، وأقام به بينة ، تعارضتا ، وذكر العتق لا يقتضي ترجيحا على الصحيح . وقيل : يرجح ؛ لأن العتق كالقبض ، نص في " الأم " أنه لو ادعى دابة في يد غيره ، وأقام بينة أنها له منذ عشر سنين ، ونظر الحاكم في سنها ، فإذا لها ثلاث سنين فقط ، لم يقبل الشهادة ؛ لأنها كذب ، وأن المسناة الحائلة بين نهر شخص وأرض آخر ، يجعل بينهما كالجدار الحائل . ولو ادعى مائة درهم على إنسان ، فقال : قبضت خمسين ، لم يكن مقرا بالمائة ، وكذا لو قال : قضيت منها خمسين . ولو اختلف الزوجان في متاع البيت ، فإن كان لأحدهما بينة قضي بها ، وإن لم يكن بينة ، فما اختص أحدهما باليد عليه حسا أو حكما ، بأن كان في ملكه ، فالقول قوله فيه بيمينه ، وما كان في يدهما حسا ، أو في البيت الذي يسكنانه ، فلكل واحد تحليف الآخر ، فإن حلفا جعل بينهما ، وإن حلف أحدهما دون الآخر قضي للحالف ، وسواء اختلفا في دوام النكاح ، أم بعد الفراق ، وسواء اختلفا هما أو ورثتهما ، أو أحدهما وورثة الآخر ، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنطقة ، أو للزوجة [ ص: 93 ] كالحلي والغزل ، أولهما . ولو اختلف مالك الدار وساكنها بالإجارة في متاع الدار ، فالقول قول الساكن ، فإن تنازعا في رف فيها ، نظر ، إن كان مسمرا أو مثبتا ، فالقول قول المالك ، وإلا فهو بينهما ، نص عليه . ولو تنازعا أرضا ولأحدهما فيها زرع أو بناء أو غراس ، فهي في يده ، أو دابة أو جارية حاملا ، والحمل لأحدهما بالاتفاق ، فهي في يده ، أو دار لأحدهما فيها متاع ، فهي في يده . فإن لم يكن المتاع إلا في بيت لم يجعل في يده إلا ذلك البيت ، هكذا ذكروه . ولو تنازعا عبدا ، ولأحدهما عليه ثياب ، لم يجعل صاحب يد في العبد ؛ لأن منفعة الثوب الملبوس تعود إلى العبد ، لا إلى المدعي . ولو قال رجل : استأجرت هذه الدار من زيد سنة في أول رمضان ، وقال آخر : استأجرتها منه سنة من أول شوال ، وأقام كل واحد بينة ، فقولان حكاهما الفوراني ، المشهور وبه قطع البغوي وغيره : تقدم بينة رمضان لسبق تاريخها . والثاني : بينة شوال ؛ لأنها ناسخة ، ويحتمل أنهما تقايلا ، واستأجر الثاني في شوال ، ويجيء هذا في بينتي البيع على ضعفه .

                                                                                                                                                                        قامت بينة أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه ، وبينة أن هذا الآخر ابنه لا يعرف له وارثا سواه ، ثبت نسبهما ، فلعل كل بينة اطلعت على ما لم تطلع عليه الأخرى .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية