الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات

حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا ؛ إذ منها يتكون المجتمع ، وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر ، وافتتحت بـ يا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده .

والقول في معنى كتب عليكم ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية .

والصيام ، ويقال الصوم : هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله .

[ ص: 155 ] والصيام اسم منقول من مصدر فعال ، وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء ؛ لم يكن صياما كما قال العرجي :


فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة :


خيل صيام وخيل غير صائمة     تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب :


حتى إذا سلخا جمادى ستة     جزءا فطال صيامه وصيامها

والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة ، فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره .

وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي - لا يصح ؛ لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في الأساس وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول أم عيسى : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل .

فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ؛ أي : كتب عليكم جنس الصيام المعروف . وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وفي بعض الروايات قولها وكان رسول الله يصومه ، وعن ابن عباس لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : يوم نجى الله فيه موسى ، فنحن نصومه ، فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصومه فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه ، لا تعرف أصل صومه ، وفي حديث عائشة : فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة ، وقال رسول الله : من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن [ ص: 156 ] فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى : فالآن باشروهن إلى قوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وقوله : شهر رمضان الآية ، وقوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، وبهذا يتبين أن في قوله : كتب عليكم الصيام إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده .

فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة . فقوله : كما كتب على الذين من قبلكم تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات ، والتشبيه يكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة ، وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه :

أحدها : الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها ؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها ، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كيلا يتميز بها من كان قبلهم .

إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث أن ناسا من أصحاب رسول الله قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم الحديث ، ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة .

فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم ، وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة ، قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

والغرض الثاني : أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا [ ص: 157 ] هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين ، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام ، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده : أياما معدودات .

والغرض الثالث : إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض ، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة .

ووقع لأبي بكر بن العربي في العارضة قوله : كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله : كما كتب على الذين من قبلكم وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم .

فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان ، لأن فعل " كتب " يدل على الوجوب ، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم ، فيكون صوم عاشوراء تقدم عاما ، ثم فرض رمضان في العام الذي يليه ، وفي الصحيح : أن النبيء صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات ، فلا شك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ، ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة .

والمراد بـ الذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع ، وهم أهل الكتاب - أعني اليهود - لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة ، وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم ، وهو الشهر المسمى عندهم ( تسري ) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ، ويسمونه ( كبور ) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى ، وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس ، وصوم يوم ( بوريم ) تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم أحشويروش في واقعة ( استير ) وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث : أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ، أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قالوا : يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح ، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته ، [ ص: 158 ] ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة .

وقوله : لعلكم تتقون بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لـ ( كتب ) و " لعل " إما مستعارة لمعنى " كي " استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله في إرادته من تشريع الصوم التقوى ، بحال المترجي من غيره فعلا ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي ؛ لأن المعاصي قسمان ؛ قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب ، فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية .

وفي الحديث الصحيح الصوم جنة أي : وقاية ، ولما ترك ذكر متعلق ( جنة ) تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ، ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات ؛ وقوله تعالى : أياما معدودات ظرف للصيام مثل قولك : الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين " الصيام " وبين " أياما " ، وهو قوله : ( كما كتب ) إلى ( تتقون ) لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من " لعل " كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه ، وهو قوله " صيام " ، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو ( كتب ) فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ، ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي ، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة .

والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها ، وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية [ ص: 159 ] في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية . وتطغيان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ؛ لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى .

والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل ، أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه ، وكان نقصانه يقتر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ، ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حظ له في الحيوانية إلا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفية التي جاء بها الإسلام ، قيل في هياكل النور : النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف ، فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات [ ص: 160 ] أو الألبان ، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ، ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده ، فتكون هي زنة طعام كل يوم .

وفي حكمة الإشراق للسهروردي : " وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله " ا هـ .

وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها ، فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض ؛ لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته .


إذا المرء لم يترك طعاما يحبه     ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبة     إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بين الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلماذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ، ولماذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة .

[ ص: 161 ] قلت : شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها ، فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للمتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية ، وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم ، وهذا يدخل تحت قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

والمراد بالأيام من قوله : أياما معدودات شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ، ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر ، قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده من أيام أخر : صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : إلا أياما معدودة وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : أياما معدودات فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة ، وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا ، وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا ؛ لأن الجمع قد أول بالجماعة ، والجماعة كلمة مفردة ، وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ؛ ليكون في معنى الجماعات ، وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ، ولأجل هذا قال تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة لأنهم يقللونها غرورا أو تغريرا ، وقال هنا : معدودات ؛ لأنها ثلاثون يوما ، وقال في الآية الآتية : الحج أشهر معلومات وهذا مثل قوله في جمع جمل جمالات على أحد التفسيرين ، وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرت ا هـ . وهو غير ظاهر .

وقيل : المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض [ ص: 162 ] الصيام بقوله : أياما معدودات ثم نسخ صومها بصوم رمضان ، وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلا صوم يوم عاشوراء ، كما في الصحيح وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق .

التالي السابق


الخدمات العلمية