الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( 39 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : وإن يعد هؤلاء لحربك ، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر ، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم ، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو " الفتنة " " ويكون الدين [ ص: 538 ] كله لله " ، يقول : حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره . * * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

* ذكر من قال ذلك :

16076 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يعني : حتى لا يكون شرك .

16077 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " الفتنة " ، الشرك .

16078 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، يقول : قاتلوهم حتى لا يكون شرك " ويكون الدين كله لله " ، حتى يقال : " لا إله إلا الله " ، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وإليها دعا .

16079 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون شرك .

16080 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون بلاء . [ ص: 539 ]

16081 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ، أي : لا يفتن مؤمن عن دينه ، ويكون التوحيد لله خالصا ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد .

16082 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : حتى لا يكون كفر " ويكون الدين كله لله " ، لا يكون مع دينكم كفر .

16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبان العطار قال ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء ، فكتب إليه عروة : " سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فنعم النبي ! ونعم السيد ! ونعم العشيرة ! فجزاه الله خيرا ، وعرفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته ، وأماتنا عليها ، وبعثنا عليها . وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه ، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه ، وكادوا [ ص: 540 ] يسمعون له ، حتى ذكر طواغيتهم . وقدم ناس من الطائف من قريش ، لهم أموال ، أنكر ذلك ناس ، واشتدوا عليه ، وكرهوا ما قال ، وأغروا به من أطاعهم ، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه ، إلا من حفظه الله منهم ، وهم قليل . فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنة شديدة الزلزال ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله من شاء منهم . فلما فعل ذلك بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة . وكان بالحبشة ملك صالح يقال له " النجاشي " ، لا يظلم أحد بأرضه ، وكان يثنى عليه مع ذلك [ صلاح ] ، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش ، يتجرون فيها ، ومساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا ، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخاف عليهم الفتن . ومكث هو فلم يبرح . فمكث ذلك [ ص: 541 ] سنوات يشتدون على من أسلم منهم . ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم . فلما رأوا ذلك ، استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه . وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة ، مخافتها ، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال . فلما استرخي عنهم ، ودخل في الإسلام من دخل منهم ، تحدث باسترخائهم عنهم . فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قد استرخي عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون . فرجعوا إلى مكة ، وكادوا يأمنون بها ، وجعلوا يزدادون ، ويكثرون . وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير ، وفشا بالمدينة الإسلام ، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . فلما رأت ذلك قريش ، تذامرت على أن يفتنوهم ويشتدوا عليهم ، فأخذوهم ، وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد . [ ص: 542 ] وكانت الفتنة الآخرة . فكانت ثنتين : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة ، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، وأذن لهم في الخروج إليها وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة . ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا ، رؤوس الذين أسلموا ، فوافوه بالحج ، فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم على أنا منك وأنت منا ، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا ، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا . فاشتدت عليهم قريش عند ذلك . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله فيها : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " .

16084 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة بن الزبير : أنه كتب إلى الوليد : " أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وعندي ، [ ص: 543 ] بحمد الله ، من ذلك علم بكل ما كتبت تسألني عنه ، وسأخبرك إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم ذكر نحوه .

16085 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا قيس ، عن الأعمش ، عن مجاهد : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " ، قال : " يساف " و" نائلة " ، صنمان كانا يعبدان . * * *

وأما قوله : " فإن انتهوا " ، فإن معناه : فإن انتهوا عن الفتنة ، وهي الشرك بالله ، وصاروا إلى الدين الحق معكم " فإن الله بما يعملون بصير " ، يقول : فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام ، لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم ، والأشياء كلها متجلية له ، لا تغيب عنه ، ولا [ ص: 544 ] يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . * * *

وقد قال بعضهم : معنى ذلك ، فإن انتهوا عن القتال . * * *

قال أبو جعفر : والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب ، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال ، فإنه كان فرضا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية