الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في خصائص العتق التي ينفرد بها عن الطلاق ، وهي خمس : الأولى السراية ، فمن أعتق بعض مملوك ، فإما أن يكون باقيه له أو لغيره . الحالة الأولى : أن يكون له ، فيعتق كله كما في الطلاق ، سواء الموسر والمعسر . ولو أضاف إلى عضو معين ، كيد ، ورجل ، عتق كله ، كالطلاق . وفي كيفية التكميل إذا أضاف العتق إلى الجزء الشائع وجهان : أحدهما يحصل في الجزء المسمى ، ثم يسري إلى الباقي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 111 ] والثاني : يقع على الجميع دفعة ويكون إعتاق البعض عبارة عن إعتاق الكل . وإن أضافه إلى جزء معين ، فوجهان مرتبان ، وأولى بحصوله دفعة ، وقد سبق هذا الخلاف بتفاريعه في الطلاق .

                                                                                                                                                                        ولو أعتق أمته الحامل بمملوك له ، عتق الحمل أيضا ، لا بالسراية ، فإن السراية في الأشقاص ، لا في الأشخاص ، بل بطريق التبع كما يتبعها في البيع ، إلا أن البيع يبطل باستثنائه ، والعتق لا يبطل لقوته . ولهذا لو استثنى عضوا في البيع ، بطل ، بخلاف العتق . ولو أعتق الحمل ، عتق ، ولم يعتق الأم على الصحيح ; لأنها لا تتبعه . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : تعتق بعتقه .

                                                                                                                                                                        ولو كانت الأم لواحد ، والحمل لآخر ، لم يعتق واحد منهما بعتق الآخر . ولو قال لأمته : إذا ولدت فولدك حر ، أو كل ولد تلدينه حر ، فقد ذكرنا في الطلاق أنها إن كانت حاملا عند التعليق ، عتق الولد ، وإن كانت حائلا ، عتق أيضا على الأصح ; لأنه وإن لم يملك الولد حينئذ ، فقد ملك الأصل المفيد لملك الولد .

                                                                                                                                                                        ولو قال لأمته الحامل : إن كان أول من تلدينه ذكرا فهو حر ، وإن كانت أنثى فأنت حرة ، فولدت ذكرا وأنثى ، فإن ولدت الذكر أولا ، عتق ، ورقت الأم والأنثى ، وإن ولدت الأنثى أولا ، عتقت الأم والذكر أيضا ، لكونه في بطن عتيقه ، وترق الأنثى ; لأن عتق الأم طرأ بعد مفارقتها . وإن ولدتهما معا ، فلا عتق ، إذ لا أول فيهما . ولو لم يعلم هل ولدتهما معا أو مرتبا ، فلا عتق ، للشك . وإن علم سبق أحدهما ، وأشكل ، فالذكر حر بكل حال ، والأنثى رقيقة بكل حال ، والأم مشكوك فيها ، فيؤمر السيد بالبيان ، فإن مات قبل البيان ، فالأصح أنها رقيقة ، عملا بالأصل . وقال ابن الحداد : يقرع [ ص: 112 ] عليها بسهم رق وسهم عتق ، قال الشيخ أبو علي : ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة الأصحاب ، لأنا شككنا في عتقها ، والقرعة لا يثبت مشكوكا فيه ، وإنما يستعمل في تعيين ما تيقنا أصله . قال الشيخ أبو علي : هذا كله إذا ولدت في صحة السيد ، فلو ولدت في مرض موته ، نظر ، إن كان الثلث يفي بالجميع ، لم يختلف الجواب ، وإن لم يف بأن لم يكن له إلا هذه الأمة وما ولدت ، أقرع بين الأم والغلام ، فإن خرجت على الغلام ، عتق وحده إن خرج من الثلث ، وإن خرجت على الأم ، قومت حاملا بالغلام يوم ولدت الجارية إن ولدتها أولا ، ويعتق منها ومن الغلام قدر الثلث ، فإن كانت قيمة الجارية مائة وقيمة الأم حاملا بالغلام مائتين ، فيعتق نصفها ونصف الغلام وهو مائة ، ويبقى للورثة النصفان ، وهو مائة ، والجارية وهي مائة أخرى .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : أن يكون الباقي لغيره ، فيعتق نصيبه ، فإن كان موسرا بقيمة باقيه ، لزمه قيمته للشريك ، وعتق الباقي عليه وولاء جميع العبد له ، وإن كان معسرا بقي الباقي على ملك الشريك وإنما يثبت التقويم بأربعة شروط .

                                                                                                                                                                        أحدها : كون المعتق موسرا وليس معناه أن يعد غنيا ، بل إذا كان له من المال ما يفي بقيمة نصيب شريكه ، قوم عليه ، وإن لم يملك غيره ، ويصرف إلى هذه الجهة كل ما يباع في الدين ، فيباع مسكنه وخادمه ، وكل ما فضل عن قوت يوم ، وقوت من تلزمه نفقته ، ودست ثوب يلبسه ، وسكنى يوم ، والاعتبار في اليسار بحالة الإعتاق ، فإن كان معسرا ، ثم أيسر ، فلا تقويم . ولو ملك قيمة الباقي ، لكن عليه دين بقدره ، قوم عليه على الأظهر ، واختاره الأكثرون ; لأنه مالك لما في يده نافذ تصرفه .

                                                                                                                                                                        ولهذا [ ص: 113 ] لو اشترى به عبدا وأعتقه ، نفذ . والثاني : لا يقوم ; لأنه غير موسر ، بل لو أبرئ عن الدين ، لم يقوم عليه أيضا ، كالمعسر يوسر ، فعلى الأول يضارب الشريك بقيمة نصيبه مع الغرماء ، فإن أصابه بالمضاربة ما يفي بقيمة جميع نصيبه ، فذاك ، وإلا اقتصر على حصته ، ويعتق جميع العبد إن قلنا : تحصل السراية بنفس الإعتاق ، وإن قلنا : لا تحصل بنفس الإعتاق ، ضارب الشريك بقيمة باقيه ، إلى أن يعتق الجميع .

                                                                                                                                                                        ولو كان بين رجلين عبد قيمته عشرون ، فقال رجل لأحدهما : أعتق نصيبك منه عني على هذه العشرة ، وهو لا يملك غيرها ، فأجابه ، عتق نصيبه عن المستدعي ، ولا سراية ; لأنه زال ملكه عن العشرة بما جرى ، وإن قال : علي عشرة في ذمتي ، فإن قلنا : الدين يمنع التقويم ، لم يقوم ، وإن قلنا : لا يمنع ، فإن قلنا : السراية تحصل بنفس الإعتاق ، عتق جميع العبد ، ويقسم العشرة بين الشريكين بالسوية ، وتبقى لكل واحد خمسة في ذمته ، وإن قلنا : لا يحصل بنفس الإعتاق ، عتق من نصيب الشريك بالسراية حصة الخمسة ، وهو ربع العبد ، ويبقى الباقي على الرق ، وللشريك المستدعي منه خمسة في ذمته .

                                                                                                                                                                        ولو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة ، فأعتق نصيبه منهما وهو موسر بنصف قيمة أحدهما ، نظر ، إن أعتقهما معا ، عتق نصيبه منهما ، وسرى إلى نصف نصيب الشريك من كل منهما ، فيعتق من كل منهما ثلاثة أرباعه ، وهذا إذا حكمنا بالسراية في الحال . وقلنا : اليسار بقيمة بعض النصيب يقتضي السراية بالقسط ، وإن أعتق مرتبا ، سرى إلى جميع الأول . ثم إن قلنا : الدين يمنع السراية ، فلا سراية في العبد [ ص: 114 ] الثاني ، وإلا فيسري ، وما في يده يصرف إلى الشريك ، والباقي في ذمته .

                                                                                                                                                                        وإن كان الشقصان لشخصين ، صرف إلى كل منهما نصفه . ولو ملك الشقصين ، فأعتقهما معا ولا مال له غيرهما ، فلا سراية ; لأنه معسر . وإن أعتقهما مرتبا ، عتق كل الأول ; لأن في نصيبه في العبد الآخر وفاء بباقي الذي أعتق شقصه ، ثم إذا أعتق نصيبه من الثاني نفذ العتق في نصيبه ، ولا سراية ; لأنه معسر ، وإنما نفذ إعتاقه نصيبه من الثاني ; لأن حق الشريك لا يتعين فيه ، بل هو في الذمة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أعتق شريك نصيبه في مرض موته ، نظر ، إن خرج جميع العبد من ثلث ماله ، قوم عليه نصيب شريكه ، وعتق ، وإن لم يخرج منه إلا نصيبه ، عتق نصيبه ، ولا تقويم ، وإن خرج نصيبه وبعض نصيب شريكه ، قوم عليه ذلك القدر ، ويجيء فيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى في يسار المعتق ببعض نصيب الشريك . وبالجملة المريض في الثلث كالصحيح في الكل ، وفيما زاد على الثلث معسر . واحتج القاضي أبو الطيب وغيره باعتبار الثلث على أن التقويم يكون بعد موت المريض ; لأن الثلث يعتبر حالة الموت ، حتى إذا لم يف الثلث بجميع العبد حال إعتاقه ، ثم استفاد مالا ، ووفى عند الموت ، قوم جميعه . وفي التهذيب أنه لو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة ، فأعتقهما في مرض الموت ، نظر ، إن خرجا من الثلث ، عتقا ، سواء أعتقهما معا أو مرتبا ، وعليه قيمة نصيب شريكه ، وإن لم يخرج من الثلث إلا نصيباه ، فإن أعتقهما معا ، عتق نصيباه ، ولا سراية ، وإن أعتقهما [ ص: 115 ] مرتبا ، عتق كل الأول ، ولم يعتق من الثاني شيء ; لأنه لزمه قيمة نصيب الشريك من الأول ، وصار نصيبه من الثاني مستحق الصرف إليه ، وإن خرج من الثلث نصيباه ، ونصيب أحد الشريكين ، فإن أعتقهما مرتبا ، عتق جميع الأول ، ولا يعتق من الثاني إلا نصيبه ، وإن أعتقهما معا فوجهان . أحدهما وبه قال ابن الحداد : يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه : نصيباه ، ونصف نصيب الشريك من كل واحد منهما . والثاني : يقرع ، فمن خرجت قرعته ، عتق كله ، ولم يعتق من الآخر إلا نصيبه ; لأن القرعة مشروعة في العتق ، ولا يصار إلى التشقيص مع إمكان التكميل . وإن لم يخرج من الثلث إلا أحد نصيبيه ، فإن أعتقهما معا ، فوجهان ، أحدهما : يعتق من كل واحد نصف نصيبه ، وهو ربع كل عبد ، وأصحهما : يقرع ، فمن خرجت قرعته ، عتق منه جميع نصيبه ، ولا يعتق من الآخر شيء . ولو أعتق النصيبين ولا مال له غيرهما ، قال الشيخ أبو علي : إن أعتقهما مرتبا ، عتق ثلثا نصيبه من الأول ، وهو ثلث جميع ماله ، وهو ثلث ذلك العبد ، ويبقى للورثة سدس ذلك العبد ، ونصف العبد الآخر . وإن أعتقهما معا ومات ، أقرع بينهما ، فمن خرجت قرعته ، عتق منه ثلثا نصيبه ، وهو ثلث ماله .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته ، فلا سراية وإن خرج كله من الثلث ; لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث ، ويبقى الميت معسرا ، بل لو كان كل العبد له فأوصى بإعتاق بعضه ، فأعتق ، لم يسر . وكذا لو دبر أحدهما نصيبه ، فقال : إذا مت ، فنصيبي منك حر ، وإن قال في الوصية : أعتقوا نصيبي ، وكملوا العتق كملناه ، [ ص: 116 ] إن خرج من الثلث ، وإن لم يخرج كله ، نفذت الوصية في القدر الذي يخرج .

                                                                                                                                                                        وهنا فائدتان ، إحداهما : قال القاضي أبو الطيب : عندي أنه إذا أوصى بالتكميل ، لا يكمل إلا باختيار الشريك ; لأن التقويم إذا لم يكن مستحقا لا يصير مستحقا باختيار المعتق . ألا ترى أن المعتق لو كان معسرا ، ثم أيسر ، أو قال : قوموه علي حتى أستقرض ، لا يجبر الشريك ، والجمهور أطلقوا ، ووجهه الروياني بأنه متمكن من التصرف في الثلث . وإذا أوصى بالتكميل ، فقد استبقى لنفسه قدر قيمة العبد من الثلث ، فكان موسرا به .

                                                                                                                                                                        الثانية : ذكر الإمام والغزالي أن لصورة الوصية بالتكميل أن يقول : اشتروا نصيب الشريك ، فأعتقوه ، فأما إذا قال : أعتقوه إعتاقا ساريا ، فلا خير في هذه الوصية ; لأنه لا سراية بعد الموت ، وإن أعتقنا نصيبه ، فالذي أتى به وصية بمحال . ولو ملك نصفي عبدين ، فأوصى بإعتاق نصيبه منهما بعد موته ، أعتق عنه النصيبان ، ولا سراية . ولو قال مع ذلك : وكملوا عتقهما ، فإن خرجا من الثلث ، كمن عتقهما ، وإن خرج الباقي من أحدهما ، فطريقان حكاهما البغوي .

                                                                                                                                                                        أحدهما : فيه الوجهان فيمن أعتق في مرض الموت النصيبين ، ولم يخرج من الثلث إلا نصيباه مع الباقي من أحدهما ، ففي وجه : يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه ، وفي آخر : يقرع ، فمن خرجت قرعته ، أعتق كله ، وأعتق من الآخر نصيبه لا غير . الثاني : القطع بالقرعة ; لأنه قصد التكميل هنا حيث أوصى به ، فيراعى مقصوده بقدر الإمكان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 117 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو كان الشريك موسرا ببعض قيمة النصيب ، فوجهان ، الأصح المنصوص في " الأم " : أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به . والثاني : لا يسري ; لأنه لا يفيده الاستقلال في ثبوت أحكام الأحرار . ولو كان بين ثلاثة عبد ، فأعتق اثنان نصيبهما ، وأحدهما موسر ، قوم نصيب الثالث عليه بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية