الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الربا

قال الله (تعالى): الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ؛ إلى قوله (تعالى): وأحل الله البيع وحرم الربا ؛ قال أبو بكر : أصل الربا في اللغة هو الزيادة؛ ومنه الرابية؛ لزيادتها على ما حواليها من الأرض؛ ومنه الربوة من الأرض؛ وهي المرتفعة؛ ومنه قولهم: أربى فلان على فلان في القول؛ أو الفعل؛ إذا زاد عليه؛ وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة؛ ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى النساء ربا؛ في حديث أسامة بن زيد ؛ فقال: " إنما الربا في النسيئة "؛ وقال عمر بن الخطاب : "إن من الربا أبوابا لا تخفى؛ منها السلم في السن"؛ يعني الحيوان؛ وقال عمر أيضا: "إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن؛ وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبينه لنا؛ فدعوا الربا؛ والريبة"؛ فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا; لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر ; لأنه كان عالما بأسماء اللغة; لأنه من أهلها.

ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب؛ والفضة بالفضة؛ نساء؛ ربا؛ وهو ربا في الشرع؛ وإذا كان ذلك على ما وصفنا؛ صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان؛ وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع؛ لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة؛ نحو الصلاة؛ والصوم؛ والزكاة؛ فهو مفتقر إلى البيان؛ ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود؛ إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع [ ص: 184 ] بذلك؛ وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا من مراد الله (تعالى) بالآية؛ نصا وتوقيفا؛ ومنه ما بينه دليلا؛ فلم يخل مراد الله (تعالى) من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف؛ والاستدلال؛ والربا الذي كانت العرب تعرفه؛ وتفعله؛ إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل؛ بزيادة على مقدار ما استقرض؛ على ما يتراضون به؛ ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد؛ وإذا كان متفاضلا من جنس واحد؛ هذا كان المتعارف المشهور بينهم؛ ولذلك قال الله (تعالى): وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ؛ فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة ؛ إنما كانت ربا في المال العين; لأنه لا عوض لها من جهة المقرض؛ وقال (تعالى): لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ؛ إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة؛ فأبطل الله (تعالى) الربا الذي كانوا يتعاملون به؛ وأبطل ضروبا أخر من البياعات؛ وسماها "ربا"؛ فانتظم قوله (تعالى): وحرم الربا ؛ تحريم جميعها؛ لشمول الاسم عليها من طريق الشرع؛ ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا؛ من قرض دراهم؛ أو دنانير؛ إلى أجل؛ مع شرط الزيادة.

واسم الربا في الشرع يعتوره معان؛ أحدها: الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية؛ والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل؛ والموزون؛ على قول أصحابنا؛ ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا؛ مدخرا؛ والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس؛ فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه؛ على ما قدمنا؛ والثالث: النساء؛ وهو على ضروب؛ منها: في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء؛ سواء كان من المكيل؛ أو من الموزون؛ أو من غيره؛ فلا يجوز عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي؛ نساء ؛ لوجود الجنس؛ ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل؛ وهو الكيل؛ والوزن؛ في غير الأثمان التي هي الدراهم؛ والدنانير؛ فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز؛ لوجود الكيل؛ ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز؛ لوجود الوزن؛ والله (تعالى) الموفق.

التالي السابق


الخدمات العلمية