الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 207 ] الباب الخامس

                                                                                                                في سنن الصلاة

                                                                                                                والسنة في اللغة لها ثلاثة معان : السيرة ، وصورة الوجه ، وتمر بالمدينة ، والسنن الطريقة ويقال : بالفتح في السين والنون وضمهما وضم السين فقط . والسنة في الشرع لها خمسة معان : ما يلفى شرعه من النبي - عليه السلام - من غير القرآن فيقال هذا ثابت بالكتاب والسنة قولا كانت السنة أو فعلا ، وعلى فعله دون قوله ، وعلى فعله الذي هو واجب عليه نحو الوتر وقيام الليل ، وعلى ما تأكد من المندوبات مطلقا ، وعلى ما يقتضي تركه سجود السهو في الصلاة عند بعض المالكية نحو صاحب الجلاب وجماعة معه ، والكلام هاهنا على القسمين الأخيرين في الصلاة مجملا ومفصلا ، فنقول : سنن الصلاة اثنتان وعشرون سنة .

                                                                                                                السنة الأولى والثانية : الجهر فيما يجهر فيه وهو الأوليان من المغرب والعشاء ، وجملة الصبح ، والوتر ، والجمعة ، والعيدان ، والاستسقاء ، والسر فيما يسر فيه وهو ما عدا ذلك . قال في الكتاب والجهر : أن يسمع نفسه وفوق [ ص: 208 ] ذلك قليلا ، والمرأة دون الرجل في ذلك ، قال صاحب الطراز : السر ما لا يسمع بأذن أصلا ، والجهر ضده وأقله إسماع من يلي المصلي إذا أنصت إليه . والإمام يرفع صوته ما أمكنه ; ليسمع الجماعة ، والمنفرد بين ذلك لما في الموطأ : خرج - عليه السلام - على الناس وهم يصلون ، وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال : إن المصلي يناجي ربه فلينظر ما يناجيه به ، ولا يجهر بعضكم على بعض في القراءة ، وفي البيان لا يجوز أن يفرط المسبوق في الجمعة إذا كان بجنبه مثله لئلا يخلط عليه ، ولا أن يرفع صوته في النافلة إذا كان بجنبه من يصلي ، والمرأة تأتي بأقل مراتب الجهر ; لأن صوتها عورة .

                                                                                                                فائدة :

                                                                                                                قال صاحب الطراز : كان - عليه السلام - يجهر في صلاته بالنهار فكان المنافقون يجدون بذلك وسيلة فيصفرون ويكثرون اللغط ، فشرع الإسرار حسما لمادتهم .

                                                                                                                السنة الثالثة والرابعة سورة مع أم القرآن والقيام لها في الركعتين الأوليين والمنفردتين ، قال في الكتاب : إن تركها صحت صلاته وهو مذهب الجمهور ; لقوله عليه السلام : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، قال المازري : وأوجب عمر - رضي الله عنه - زيادة على الفاتحة ، وحده غيره بثلاث آيات ، وقيل ما تيسر ، وخرج اللخمي قولا بالوجوب ، وفيه نظر ، وروي عن مالك أنها فضيلة لا توجب سجودا والأفضل الاقتصار على صورة العمل ، ويجوز [ ص: 209 ] الجمع بين سور ; لقول ابن مسعود - رضي الله عنه - لقد عرفت النظائر التي كان - عليه السلام - يقرن بينها ، وذكر عشرين سورة ويمكن حمله على النوافل ، وإذا قرأ سورة قرأ ما بعدها اتباعا لترتيب المصحف ، فلو قرأ ما قبلها جاز ولو اقتصر على بعض سورة ، قال صاحب الطراز : قال مالك : لا يفعل فإن فعل أجزأه وهو المشهور ، وروى الواقدي لا بأس بذلك . حجة المشهور : أنه الغالب من فعله - عليه السلام - وفعل الصحابة - رضوان الله عليهم - بعده وفي أبي داود أنه - عليه السلام - صلى الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنون حتى جاء ذكر موسى وهارون وعيسى عليهم السلام أخذته - عليه السلام - سعلة فركع ، وفي الموطأ أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قرأ في ركعتي الصبح بالبقرة ، قال في الكتاب : ولا يقضي ما نسيه من ركعة في ركعة أخرى ، وقال ( ح ) : يقرأ في الأوليين من الظهر فإذا نسي قرأ في الأخريين . لنا أنها لو قضيت لقضيت الأركان بطريق الأولى وليس يباين حجتنا على عدم قراءتها في الركعتين الأخيرتين ، خلافا ( ش ) ما في الصحيحين أنه - عليه السلام - كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب ، وسورة ويسمعنا الآية أحيانا ، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ، ويقصر الثانية وكذلك في الصبح ، ويقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب . احتج ( ش ) بما في مسلم عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا نحزر قيامه الركعتين الأوليين من الظهر قدر ( الم تنزيل ) : [ ص: 102 ] السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخيرتين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخيرتين من الظهر ، وفي الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك ، وفي الموطأ : أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربع في كل ركعة بأم القرآن وسورة ، وكان يقرأ أحيانا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة من الفريضة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن ما ذكرناه أرجح ; لأنه مبين ، وما ذكرتموه حزر ، وعن الثاني أنه محمول على النافلة بدليل ذكر الفريضة بعده ، ولأنه يعارض بعمل المدينة .

                                                                                                                السنة الخامسة التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام ، قال اللخمي : وقيل هو فضيلة ، وقال صاحب المقدمات : وقيل التكبيرة الواحدة سنة وقد تقدم البحث في معناه في تكبيرة الإحرام في الأركان ، وهو عندنا مشروع في كل خفض ورفع ، خلافا لعمر بن عبد العزيز وجماعته لما أطبق عليه المسلمون في سائر الأمصار ، ولأن أبا هريرة صلى وكبر للرفع والخفض ، وقال : إني لأشبهكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم . قال المازري : وقد رأى بعض المتأخرين أن مقتضى الروايات وجوبه لقوله في تاركه : إن لم يسجد وطال بطلت صلاته ، وقال بوجوبه ابن حنبل . لنا حديث الأعرابي المسيء لصلاته ، قال في الكتاب : يكبر للركوع والسجود إذا شرع فيه ، ولا يكبر بعد التشهد حتى يستوي قائما ووافقه ( ح ) ، وخالفه ( ش ) . لنا ما في أبي داود أنه - عليه السلام - كان إذا قام من الركعتين [ ص: 211 ] كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، كما يكبر عند افتتاح الصلاة ، ولأن التكبير شرع في الصلاة متصلا بما ينتقل منه وإليه فلا يخرج من ركن إلا ذاكرا ، ولا يدخل في ركن إلا ذاكرا ، وكذلك لا يدخل في الصلاة إلا ذاكرا بتكبيرة الإحرام ، ولا يخرج منها إلا ذاكرا بالتسليم ، والجلوس ليس بركن لصحة الصلاة بدونه إجماعا فكان التكبير بعده للقيام فيكون في أوله كقيام أول الصلاة ، ولأن الصلاة فرضت مثنى مثنى ، ثم زيد في صلاة الحضر كما في الموطأ فقد كان التشهد قبل بغير تكبير فتكون التكبيرة للزيادة في ابتدائها أول القيام .

                                                                                                                السنة السادسة والسابعة : الجلسة الوسطى والمقدار الزائد بعد جلوسه الواجب للسلام ، دليل عدم وجوبها أنه - عليه السلام - لما تركها سجد قبل السلام ، قال في الكتاب : الجلوس كله سواء يفضي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى وظاهر إبهامها مما يلي الأرض ويثني رجله اليسرى ، وقال ( ح ) : يفرش اليسرى فيقعد عليها وينصب اليمنى ويوجه أصابعه للقبلة ، ووافقه ( ش ) إلا في الجلسة الأخيرة فقال : يخرج رجله من الجانب الأيمن ، ويفضي بأليته إلى الأرض ، وقول ( ح ) في البخاري عنه - عليه السلام - وقول ( ش ) في أبي داود عنه - عليه السلام - ويترجح قول مالك بالعمل فقد نقله في الموطأ عن جماعة من الصحابة ، وقال ابن عمر : هو السنة . فرعان : [ ص: 212 ] الأول : سنة الجلوس أن يرفع يديه على فخذيه فإن لم يفعل ، ففي النوادر عن بعض أصحابنا يعيد الصلاة لما في أبي داود عنه - عليه السلام - أنه قال : اليدان تسجدان كما يسجد الوجه فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه ، وإذا رفع فليرفعهما ، قال صاحب الطراز : والأصح عدم الإعادة ; لأنها تبع .

                                                                                                                الثاني : قال صاحب الطراز : المعروف من المذهب قبض اليمنى إلا المسبحة يبسطها وهو قول الجمهور ، وقال في المبسوط : لا يبسطها وهو في البخاري عنه - عليه السلام - والأول في الموطأ عنه - عليه السلام - وفي السبابة ثلاثة أقوال فروي عنه أنه كان يحركها من تحت البرنس ، وقال ابن القاسم : تمد من غير تحريك وكان يحيى بن عمر يحركها عند الشهادة فقط فالسكون إشارة إلى الوحدانية والتحريك في مسلم عنه - عليه السلام - وهو مقمعة للشيطان بمعنى أنه يذكر الصلاة ، وأحوالها فلا يوقعه الشيطان في سهو ويكون جنبها الأيسر إلى جنب الخنصر إلى أسفل ، وهو قول الشافعي إلا أنه قال : أول ما يضع كفه على صدرها ، ثم يقلبها بعد ذلك ، ثم يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويبسط السبابة والإبهام وهو في أبي داود ، وقال أيضا : يبسط الوسطى معهما وهو في أبي داود ، وقال أيضا : يقبض الجميع إلا المسبحة وهو قول مالك الذي رواه عن ابن عمر في صفة صلاته - عليه السلام - وإذا قبض الإبهام جعله تحت الثلاثة ، قال مالك : وكله واسع .

                                                                                                                السنة الثامنة والتاسعة التشهدان ، قال المازري : روي عن مالك و ( ش ) وجوب الأخير ، وعن أحمد وجوبهما ووافق المشهور ( ح ) لنا قوله - عليه السلام - [ ص: 213 ] للأعرابي : ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ، ولم يذكر التشهد . وفي الصحاح أنه - عليه السلام - ترك الجلسة الوسطى فسجد قبل السلام ، وفي الترمذي أنه سبح به فلم يرجع وهذا شأن السنن ونقيس الأخير على الأول ، حجة وجوبهما فعله - عليه السلام - وقوله في أبي داود : إذا جلس أحدكم فليقل : التحيات لله ، والأمر للوجوب .

                                                                                                                وجوابه : أنه محمول على الندب جمعا بين الأدلة ، واختار مالك فيه تشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ففي الموطأ كان يقول على المنبر للناس : قولوا التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، وفي بعض روايات الموطأ لم يذكر وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله . واختار ( ش ) رواية ابن عباس عنه - عليه السلام - وهي التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . وساق التشهد مرجحا له بقول ابن عباس كان - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، ولأنه - عليه السلام - توفي وابن عباس صغير [ ص: 214 ] فيكون آخر الأمر منه - عليه السلام - فيكون أرجح ; لأن فيه زيادة المباركات ، والسلام فيه منكر وهو أكثر سلام القرآن ، واختار ( ح ) رواية ابن مسعود عنه - عليه السلام - أنه كان يعلمهم التشهد : التحيات لله والصلوات والطيبات لله السلام عليك أيها النبي . وساق التشهد مرجحا له بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - أخذ النبي - عليه السلام - بيدي فعلمني التشهد ، وقال عليه السلام : أخذ جبريل - عليه السلام - بيدي فعلمني التشهد وهذا يقتضي العناية ، والضبط حتى أن الحنفية اليوم يرونه في معنى : أخذ بيدي ، أخذ في جملة الروايات إلى جبريل - عليه السلام - فإن كلهم فعل ذلك كما فعله - عليه السلام - مع ابن مسعود ، ولأنه بزيادة الواو وهي التشهد بالتعدد كما حصل الترجيح في ربنا ولك الحمد بالواو على إسقاطها ، وكذلك في قولنا في رد التحية وعليكم السلام أرجح من عليكم السلام ، ترجيحنا أن عمر - رضي الله عنه - كان يقوله على المنبر من غير نكير فجرى مجرى التواتر والإجماع ; لأن فيه زيادة الزاكيات والتسليم بالتعريف أبلغ لإفادة العموم .

                                                                                                                فوائد :

                                                                                                                التحيات جمع تحية ، والتحية السلام لقوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية ) والتحية الملك لقوله :

                                                                                                                [ ص: 215 ]

                                                                                                                من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية



                                                                                                                أي : الملك والتحية البقاء ، وقيل هو المراد بالبيت والملك هو المشهور ، وأصله : أن الملك كان يحبى فيقال له : أبيت اللعن ، ولا يقال لغيره ذلك ، والزاكيات ، قال ابن حبيب : صالح الأعمال ومنه قوله تعالى : ( قد أفلح من تزكى ) والطيبات الأقوال الحسنة كقوله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقد تقدم معنى الطيب في التيمم ، وقال ابن عبدوس : الأعمال الصالحة ; لأنها تطيب العبد كما قال تعالى : ( الطيبات للطيبين ) والصلوات إن جعلنا الألف واللام فيها للعهد كانت الصلوات الخمس ، والجنس شملت سائر الصلوات الشرعيات هذا إذا اعتبرنا الحقيقة الشرعية وهو الظاهر ، وإن اعتبرنا اللغوية وهي : الدعاء كانت للعموم في سائر الدعوات ، واللام في قولنا : لله للاختصاص أي هذه الأمور مختصة بالله إلى الإخلاص ، فهي عبادات منا للرب سبحانه وتعالى بأن لا يعبد بهذه الأمور إلا الله ، كما نعبد في الفاتحة بقولنا : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أي : لا نعبد إلا إياه ، ولا نستعين إلا به . وقولنا السلام عليك إن جعلنا السلام اسما لله تعالى فيكون معناه : الله عليك حفيظ أو راض ، وقيل هو مصدر تقدير الكلام سلم الله عليك سلاما ، ثم نقلناه من الدعاء إلى الخبر [ ص: 216 ] كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : ( فقالوا سلاما قال سلام ) . فسلامه أبلغ من سلامهم لأجل النقل ، وكذلك قال في " الحمد لله " في أول الفاتحة وتقرير جميع ذلك في علم النحو . وقيل جمع سلامة فيكون دعاء بالسلامة من الشرور كلها والرحمة ، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : هي إرادة الإحسان فتكون صفة ذاتية قديمة واجبة الوجود يعضده قوله تعالى : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) أي : تعلقت إرادتك وعلمك بسائر الموجودات ، وقال القاضي أبو بكر : هي الإحسان كله يعضده قوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) أي : الجنة ; لقوله : ( فسأكتبها للذين يتقون ) فتكون رحمة الله عنده محدثة ليست صفة ذاتية ، والرحمة اللغوية هي رقة الطبع تستحيل عليه تعالى فيتعين العدول إلى أحد هذين المجازين اللازمين للحقيقة عادة ، وعلى التقريرين فهو دعاء له عليه السلام .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال في الكتاب : لا يتبسمل أول التشهد وإن كان روي ذلك في الموطأ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وعلى الأول فقهاء الأمصار ; لأن رواية عمر [ ص: 217 ] وابن مسعود وابن عباس - رضوان الله عليهم - ليس فيها بسملة ، ولا في خبر ثابت . وكان ابن عباس ينكرها ، وفي الحديث : ليكن أول قولكم التحيات لله .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية