الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2754 ) الفصل الثاني ، أن البيع يلزم بتفرقهما ; لدلالة الحديث عليه ، ولا خلاف في لزومه بعد التفرق ، والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعادتهم ، فيما يعدونه تفرقا ; لأن الشارع علق عليه حكما ، ولم يبينه ، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس ، كالقبض ، والإحراز ، فإن كانا في فضاء واسع ، كالمسجد الكبير ، والصحراء ، فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات ، وقيل : هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة .

                                                                                                                                            قال أبو الحارث : سئل أحمد عن تفرقة الأبدان ؟ فقال : إذا أخذ هذا كذا ، وهذا كذا ، فقد تفرقا . وروى مسلم ، عن نافع ، قال : فكان ابن عمر إذا بايع ، فأراد أن لا يقيله ، مشى هنيهة ، ثم رجع . وإن كانا في دار كبيرة ، ذات مجالس وبيوت ، فالمفارقة أن يفارقه من بيت إلى بيت ، أو إلى مجلس ، أو صفة ، أو من مجلس إلى بيت ، أو نحو ذلك . فإن كانا في دار صغيرة ، فإذا صعد أحدهما السطح ، أو خرج منها ، فقد فارقه .

                                                                                                                                            وإن كانا في سفينة صغيرة ، خرج أحدهما منها ومشى ، وإن كانت كبيرة صعد أحدهما على أعلاها ، ونزل الآخر في أسفلها . وهذا كله مذهب الشافعي فإن كان المشتري هو البائع ، مثل أن يشتري لنفسه من مال ولده ، أو اشترى لولده من مال نفسه ، لم يثبت فيه خيار المجلس ; لأنه تولى طرفي العقد ، فلم يثبت له خيار ، كالشفيع ، ويحتمل أن يثبت فيه ، ويعتبر مفارقة مجلس العقد للزومه ; لأن الافتراق لا يمكن هاهنا ، لكون البائع هو المشتري ، ومتى حصل التفرق لزم العقد ، قصدا ذلك أو لم يقصداه ، علماه أو جهلاه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق ، وقد وجد .

                                                                                                                                            ولو هرب أحدهما من صاحبه ، لزم العقد ; لأنه فارقه باختياره ، ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ، ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع . ولو أقاما في المجلس ، وسدلا بينهما سترا ، أو بنيا بينهما حاجزا ، أو ناما ، أو قاما فمضيا جميعا ولم يتفرقا ، فالخيار بحاله ، وإن طالت المدة لعدم التفرق .

                                                                                                                                            وروى أبو داود ، والأثرم ، بإسنادهما عن أبي الوضيء ، قال : غزونا غزوة لنا ، فنزلنا منزلا ، فباع صاحب لنا فرسا بغلام ، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما ، فلما أصبحا من الغد ، وحضر الرحيل ، قام إلى فرسه يسرجه ، فندم ، فأتى الرجل ، وأخذه بالبيع ، فأبى الرجل أن يدفعه إليه ، فقال : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر ، فقالا له هذه القصة . فقال : [ ص: 7 ] أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {البيعان بالخيار ما لم يتفرقا . } ما أراكما افترقتما . فإن فارق أحدهما الآخر مكرها ، احتمل بطلان الخيار ; لوجود غايته ، وهو التفرق ، ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له ، فكذلك في مفارقته لصاحبه .

                                                                                                                                            وقال القاضي : لا ينقطع الخيار ; لأنه حكم علق على التفرق ، فلم يثبت مع الإكراه ، كما لو علق عليه الطلاق . ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين . فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار ، إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه ، انقطع خيار صاحبه ، كما لو هرب منه ، وفارقه بغير رضاه ، ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه فيه الإكراه ، حتى يفارقه .

                                                                                                                                            وإن أكرها جميعا انقطع خيارهما ; لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له ، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه . وذكر ابن عقيل من صور الإكراه ، ما لو رأيا سبعا أو ظالما خشياه ، فهربا فزعا منه ، أو حملهما سيل أو فرقت ريح بينهما .

                                                                                                                                            ( 2755 ) فصل : وإن خرس أحدهما ، قامت إشارته مقام لفظه ، فإن لم تفهم إشارته ، أو جن ، أو أغمي عليه ، قام وليه من الأب ، أو وصيه ، أو الحاكم ، مقامه ، وهذا مذهب الشافعي . وإن مات أحدهما بطل خياره ; لأنه قد تعذر منه الخيار ، والخيار لا يورث . وأما الباقي منهما فيبطل خياره أيضا ; لأنه يبطل بالتفرق ، والتفرق بالموت أعظم ، ويحتمل أن لا يبطل ; لأن التفرق بالأبدان لم يحصل . فإن حمل الميت بطل الخيار ; لأن الفرقة حصلت بالبدن والروح معا .

                                                                                                                                            ( 2756 ) فصل : وقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله } . رواه النسائي ، والأثرم ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . وقوله : " إلا أن تكون صفقة خيار " . يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار ، فإنه لا يلزم بتفرقهما ، ولا يكون تفرقهما غاية للخيار فيه ; لكونه ثابتا بعد تفرقهما . ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرطا فيه أن لا يكون بينهما فيه خيار ، فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق . وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع ، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم ، فإنه ذكر له فعل ابن عمر ، وحديث عمرو بن شعيب ، فقال : هذا الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا اختيار أبي بكر .

                                                                                                                                            وذكر القاضي ، أن ظاهر كلام أحمد ، جواز ذلك ; لأن ابن عمر كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه . متفق عليه . والأول أصح ; لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل ابن عمر . والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ، ولو علمه لما خالفه .

                                                                                                                                            ( 2757 ) الفصل الثالث : أن ظاهر كلام الخرقي أن الخيار يمتد إلى التفرق ، ولا يبطل بالتخاير قبل العقد ولا بعده ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ; لأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } . من غير تقييد ، ولا تخصيص ، هكذا رواه حكيم بن حزام ، وأبو برزة ، وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمر والرواية الثانية أن الخيار يبطل بالتخاير . اختارها الشريف بن أبي موسى ، وهذا مذهب الشافعي ، وهو أصح ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : { فإن خير أحدهما صاحبه ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع } . يعني لزم . وفي لفظ : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ، إلا أن يكون البيع كان عن خيار ، فإن كان البيع [ ص: 8 ] عن خيار فقد وجب البيع } . متفق عليه .

                                                                                                                                            والأخذ بالزيادة أولى . والتخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد ، فالتخاير في ابتدائه أن يقول : بعتك ولا خيار بيننا . ويقبل الآخر على ذلك ، فلا يكون لهما خيار . والتخاير بعده أن يقول كل واحد منهما بعد العقد : اخترت إمضاء العقد ، أو إلزامه ، أو اخترت العقد ، أو أسقطت خياري . فيلزم العقد من الطرفين ، وإن اختار أحدهما دون الآخر ، لزم في حقه وحده ، كما لو كان خيار الشرط لهما ، فأسقط أحدهما خياره دون الآخر . وقال أصحاب الشافعي : في التخاير في ابتداء العقد قولان ، أظهرهما لا يقطع الخيار ; لأنه إسقاط للحق قبل سببه ، فلم يجز ، كخيار الشفعة .

                                                                                                                                            فعلى هذا ، هل يبطل العقد بهذا الشرط ؟ على وجهين ، بناء على الشروط الفاسدة . ولنا ، قوله عليه السلام : { فإن خير أحدهما صاحبه ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع } . وقوله : { إلا أن يكون البيع كان عن خيار ، فإن كان البيع عن خيار وجب البيع } .

                                                                                                                                            وهذا صريح في الحكم ، فلا يعول على ما خالفه . ولأن ما أثر في الخيار في المجلس ، أثر فيه مقارنا للعقد ، كاشتراط الخيار . ولأنه أحد الخيارين في البيع ، فجاز إخلاؤه عنه ، كخيار الشرط . وقولهم : إنه إسقاط للخيار قبل سببه . ليس كذلك ، فإن سبب الخيار البيع المطلق ، فأما البيع مع التخاير فليس بسبب له . ثم لو ثبت أنه سبب الخيار ، لكن المانع مقارن له ، فلم يثبت حكمه ، وأما الشفيع ، فإنه أجنبي من العقد ، فلم يصح اشتراط إسقاط خياره في العقد ، بخلاف مسألتنا . فإن قال أحدهما لصاحبه : اختر . ولم يقل الآخر شيئا ، فالساكت منهما على خياره ; لأنه لم يوجد منه ما يبطل خياره .

                                                                                                                                            وأما القائل ، فيحتمل أن يبطل خياره ; لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر } . رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار ، فسقط خياره ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي . ويحتمل أن لا يبطل خياره ; لأنه خيره ، فلم يختر ، فلم يؤثر فيه ، كما لو جعل لزوجته الخيار ، فلم تختر ، شيئا ، ويحمل الحديث على أنه خيره فاختار ، والأول أولى ; لظاهر الحديث . ولأنه جعل الخيار لغيره ، ويفارق الزوجة ; لأنه ملكها ما لا تملك ، فإذا لم تقبل ، سقط ، وها هنا كل واحد منهما يملك الخيار ، فلم يكن قوله تمليكا ، إنما كان إسقاطا ، فسقط .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية