الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أم حسبت خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد، و «أم» منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال، وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض، وقيل: هي هنا بمعنى الهمزة، والحق الأول؛ أي: بل أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في بقائهم على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر من آياتنا أي: من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عجبا أي: آية ذات عجب وضعا له [ ص: 209 ] موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر ل «كانوا» و من آياتنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها، وجوز أبو البقاء أن يكون عجبا و من آياتنا خبرين، وأن يكون عجبا حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك، والمعنى: أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم، ومن هنا يعلم وجه الربط، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة، والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله: أم حسبت إلخ. يعني أن ذلك أعظم من هذا، فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا، وأريد من الخطاب غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني، فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات، والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول. كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا، وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطبري: المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم، وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء، وقيل: المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل: أعلم أنهم عجب، كما تقول: أعلمت أن فلانا فعل كذا؛ أي: قد فعل فاعله.

                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود بالخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وليس بشيء، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه، ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى: إنا جعلنا إلى آخره على معنى: إنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم، وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا، ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم، وقد استعمل بالمعنيين، والكهف النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن واسعا فهو غار، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس والشعبي، وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت:


                                                                                                                                                                                                                                      وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهمو والقوم في الكهف هجد



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 210 ] وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم، ثم وضع على باب الكهف، وقيل: لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة، وروي ذلك عن السدي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف، وقيل: لوح من ذهب كتب فيه ذلك، وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل: من دين قبل عيسى عليه السلام، فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق آخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أدري ما الرقيم، وسألت كعبا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة، حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا».

                                                                                                                                                                                                                                      وروي نحو ذلك عن ابن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل: بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية