الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 40 ] 223 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرب في آنية الذهب وفي آنية الفضة ، وهل يدخل في ذلك الأواني من الخشب المضببة بالفضة أم لا ؟

1412 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا شريك ، عن حميد ، قال : { رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله عليه وسلم فيه فضة أو شد بفضة } .

قال أبو جعفر : فاحتمل أن يكون ذلك كان مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فإن كان ذلك كذلك كان مما فيه أعظم الحجة في إباحته ، وإن كان ذلك كان من أنس بن مالك بعده ، ففي ذلك ما قد دل أن لا بأس بالشرب في الإناء الذي هو كذلك عند أنس بن مالك ، فقد صار في إباحة هذا المعنى لمن يقول بإباحته من أهل العلم قول رجل [ ص: 41 ] جليل فقيه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روي هذا الحديث عن أنس بن مالك بزيادة على هذا المعنى .

1413 - كما قد حدثنا علي بن أحمد بن سليمان علان جارنا ، قال : حدثنا أحمد بن سيار المروزي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان عبدان ، عن أبي حمزة ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أنس ، قال : انصدع قدح النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل مكان الشعب سلسلة من فضة . قال : عاصم ، وقد رأيت القدح وشربت فيه .

[ ص: 42 ] قال قائل : كيف تقبلون هذا ، وقد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ؟

1414 - فذكر ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالك بن أنس أخبره ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم } .

1415 - وما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا علي بن حجر ، قال : حدثنا إسماعيل - يعني ابن علية - عن أيوب ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 43 ] ثم ذكر بعد ذلك ما قد روي عن عبد الله بن عمر في الشرب في الإناء المفضض في الكراهة ، لما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرب في آنية الذهب والفضة .

1416 - وهو ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا موسى بن أعين ، عن خصيف بن عبد الرحمن ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه أتي بقدح مفضض يشرب فيه فأبى أن يشرب ، قال نافع : إن ابن عمر منذ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة لم يكن يشرب في قدح مفضض .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي كان ابن عمر لا يشرب في الإناء المفضض ليس مما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ؛ إذ كان الذي رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو نهيه عن الشرب في آنية الفضة ، والمسلمون جميعا على ذلك لا [ ص: 44 ] يختلفون فيه ، وإنما الذي جئنا بهذا الباب من أجله ما يختلفون فيه من الشرب في الإناء الخشب إذا كان فيه فضة كالضبة وما أشبهها فيبيح ذلك بعضهم ، وممن كان يبيحه منهم أبو حنيفة وأصحابه ، ويكرهه بعضهم وينهى عنه منهم الشافعي ، كما اختلف في ذلك قبلهم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك ، فأطلقه أنس بن مالك ، وحظره عبد الله بن عمر ، وليس قول واحد منهم في ذلك أولى من قول الآخر إلا بدليل يدل عليه ، وقد ذكرنا في قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما يدل على أن الأولى من ذينك القولين ما قاله أنس بن مالك منهما ، وقد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لباس الحرير وأخرج من ذلك أعلام الحرير التي في الثياب من عين الحرير من الكتان ومن القطن ، فكان مثل ذلك نهيه ، عن الشرب في آنية الفضة ، يخرج منه الشرب في آنية الخشب التي فيها المسامير والضبات من الفضة .

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أيضا ما يدل على ما ذكرنا .

1417 - كما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا موسى بن أعين ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نهى عن لبس الذهب ، فقالت : يا رسول الله ، أرأيت المسكة ، أتشد بالذهب ؟ قال : لا ، ولكن اجعلوه فضة ، وصفروه بالزعفران .

[ ص: 45 ] ففي هذا ما قد دل على إباحته صلى الله عليه وسلم استعمال الفضة مسكا ، ولم يمنع من ذلك كما منع من استعمالها خالصة ملبوسة كما يلبس ما يجعل مسكا لها ، وقد روي عن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان نهى عنه من الفضة ، وذكر حذيفة في حديثه الذهب .

1418 - كما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، وكما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، قال : كل واحد منهما : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، قال : { استسقى حذيفة بالمدائن ، فأتاه دهقان بإناء من فضة ، فرمى به ، ثم قال : إني كنت نهيته عنه ، فأبى أن ينتهي ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة ، وعن لبس الحرير والديباج ، وقال : دعوه لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة } .

[ ص: 46 ]

1419 - وكما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو إسحاق الضرير ، قال : حدثنا ابن عون ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، ثم ذكر مثله .

1420 - وكما حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ، عن عبد الرحمن بن زياد ( ح ) وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير ، قالا : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن أبي الشعثاء ، [ ص: 47 ] عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء بن عازب ، قال : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والديباج ، والشرب في آنية الذهب والفضة } .

قال أبو جعفر : ففي هذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة ، وليس الشرب في الآنية من الخشب التي قد خالطها الذهب والفضة من هذا في شيء ، وقد كان مذهب عبد الله بن عمر في القليل من الحرير يخالط الثوب من غير الحرير كراهة لبس ذلك الثوب ، كما يكره لبسه لو كان حريرا كله ، وقد خالفه في ذلك غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا من ذلك ما حظره ، فمما قد روي عنه رضي الله عنه مما قد ذكرناه عنه .

1421 - ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا يحيى بن حسان ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن المغيرة بن زياد ، حدثه عن أبي عمر مولى أسماء ، قال : [ ص: 48 ] رأيت ابن عمر اشترى جبة فيها خيط أحمر ، فردها فأتيت أسماء فذكرت ذلك لها ، فقالت : بؤسا لابن عمر ، يا جارية ، ناوليني جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت إلينا جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرج بالديباج .

قال أبو جعفر : أفلا ترى أن ابن عمر قد كره الجبة التي ليست من حرير للخيط الذي كان فيها من الحرير كما يكرهها لو كان كلها من الحرير ، فكذلك كان مذهبه في الإناء من غير الفضة إذا كان فيه شيء من فضة يكرهه كما يكرهه لو كان كله فضة ، وقد خالفته أسماء في ذلك وحاجته فيه بجبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ليست من ديباج مكفوفة الجيب والكمين والفرج بالديباج ، ولم تكن رضوان الله عليها تحاجه بذلك إلا وقد وقفت على استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إياها [ ص: 49 ] بعد نهيه عن استعمال مثلها لو كانت كلها حريرا .

وقد خالفه في ذلك أيضا عبد الله بن عباس ، فروى في ذلك .

1422 - ما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو غسان ومحمد بن سعيد بن الأصبهاني ، قالا : أخبرنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الثوب المصمت - يعني : من الحرير - فأما السدى والعلم فلا .

قال أبو جعفر : فأخبر ابن عباس رضي الله عنه بالمقصود بالنهي إليه في النهي عن الحرير للرجال ، وأنه ما كان حريرا كله ، وأن ما كان غير حرير قد خالطه من الحرير مثل الأعلام أنه خارج من [ ص: 50 ] ذلك ، غير منهي عنه ، فكان ذلك أولى عندنا مما رويناه عن ابن عمر مما يخالفه ؛ لأن في هذا الإخبار بالمقصود بالنهي إليه ، وأنه غير ما كرهه ابن عمر منه .

وقد روي عن عمر رضي الله عنه في هذا الباب ما هو أدل من هذا .

كما قد حدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي ، قال : حدثنا مسعر بن كدام ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن عامر ، عن سويد بن غفلة ، قال : أتينا عمر رضي الله عنه وعلينا ثياب من ثياب أهل فارس - أو قال : كسرى - فقال : برح الله هذه الوجوه ، قال : فرجعنا فألقيناها ولبسنا ثياب العرب ورجعنا إليه ، فقال : أنتم خير من قوم أتوني عليهم ثياب قوم لو رضيها الله لهم لم يلبسهم إياها ، لا تصلح أو لا تحل إلا إصبعين أو ثلاثا أو أربعا ، يعني الحرير .

[ ص: 51 ] قال أبو جعفر : فهذا عمر يقول هذا ، وفي ذلك ما قد دل على أن مثل الحرير في ذلك الفضة التي قد نهى عنها أن يشرب فيها إذا كانت آنية ، لا يدخل في ذلك الشرب فيما هو من الخشب من الآنية التي قد خالطتها الفضة من تسميرها ومن تضبيبها بها .

وقد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثني جرير بن حازم ، قال : رأيت سالم بن عبد الله أتي بشراب في قدح مفضض فرده ، فأتي بقدح غير مفضض فشرب .

.

قال جرير : وحدثني محمد بن سيرين ، عن ابنة أبي عمرو مولى عائشة ، قالت : أبت عائشة أن ترخص لنا في تفضيض الآنية .

، [ ص: 52 ] فقال قائل : فقد خالف هذا ما قد رويته ، عن مجاهد ، عن عائشة في المسك فيما تقدم من هذا الباب .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه ، أن الأمر في ذلك كما ذكره ، ولكن ابنة أبي عمرو هذه ليست عن عائشة كمجاهد عنها ، إذ كنا لم نسمع لها ذكرا في غير هذا الحديث ، وإذ كانت ليس ممن يعارض بمثلها مجاهد لجلالة مقدار مجاهد في الرواية ولعظم مقداره في الفقه .

فأما ما في هذا الحديث من كراهة سالم فيما قد كرهه فيه لما وقف عليه من مذهب أبيه رضي الله عنه كان عنه فيه من الكراهة ما به لو وقف على مذهب جده رضوان الله عليه كان في [ ص: 53 ] الحرير الذي بدل في الفضة على خلاف مذهب أبيه فيها لكان قول جده في ذلك أولى عنده من قول أبيه فيه ، والله أعلم .

وقد خالف سالما فيما ذهب إليه في ذلك من أمثاله من التابعين غير واحد ، منهم : محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .

كما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن جابر أنه رأى محمد بن علي يشرب في قدح مفضض وسقاه فيه ، ومنهم طاوس .

حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : حدثنا الخصيب بن ناصح ، قال : حدثني محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، قال : استسقى طاوس ، فأتي بإناء مضبب بفضة ، فقال : لم جعل هذا ؟ ألكسر به ؟ قلت : لا . قال : فشرب وناولني .

[ ص: 54 ] حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : حدثنا محمد بن مسلم ، قال : حدثني إبراهيم بن ميسرة ، قال : رأيت طاوسا يشرب في إناء مضبب بفضة .

ومنهم إبراهيم النخعي .

حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم ، أنه كان لا يرى بأسا بالشرب في القدح المفضض ما لم يضع فاه على الفضة .

ومنهم الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان .

حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير بن حازم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم وحماد ، أنهما كانا لا يريان بأسا بالقدح المفضض أن يشرب فيه .

وكما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن الحكم بن عتيبة ، قال : لا نعلم بالقدح المفضض بأسا .

[ ص: 55 ] ومنهم الحسن وأبو العالية .

كما حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا محمد بن بشار ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يشرب بين الضبتين ، قال قتادة : وكان أبو العالية لا يرى به بأسا ، وكان ابن عمر يكرهه ، وقد ذكرنا فيما تقدم منا في هذا الباب ما يدل عليه النظر في هذا المعنى المختلف فيه ، وأنه كما قاله مبيحو ذلك ، لا كما قاله مخالفوهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية