الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 345 ] قوله : لكن الله يشهد الاسم الشريف مبتدأ والفعل خبره ، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم ( لكن ) والاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا : ما نشهد لك يا محمد بهذا ؛ أي : الوحي والنبوة ، فنزل لكن الله يشهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ( والملائكة يشهدون ) جملة معطوفة على الجملة الأولى أو جملة حالية ، وكذلك قوله : ( أنزله بعلمه ) جملة حالية ؛ أي : متلبسا بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهلا لما اصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن وكفى بالله شهيدا أي : كفى الله شاهدا والباء زائدة ، وشهادة الله سبحانه هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة ، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره إن الذين كفروا بكل ما يجب الإيمان به ، أو بهذا الأمر الخاص ، وهو ما في هذا المقام وصدوا عن سبيل الله وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم : ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود ، وبقولهم : إن شرع موسى لا ينسخ قد ضلوا ضلالا بعيدا عن الحق بما فعلوا ؛ لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين كفروا بجحدهم ( وظلموا ) غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمدا بكتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني لم يكن الله ليغفر لهم إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البين خالدين فيها أبدا أي : يدخلهم جهنم خالدين فيها ، وهي حال مقدرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ( أبدا ) منصوب على الظرفية ، وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل ( وكان ذلك ) أي : تخليدهم في جهنم أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم على الله يسيرا لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ يس : 82 ] فآمنوا خيرا لكم اختلف أئمة النحو في انتصاب ( خيرا ) على ماذا ؟ فقال سيبويه ، والخليل : بفعل مقدر ؛ أي : واقصدوا أو ائتوا خيرا لكم ، وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف ؛ أي : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، وذهب أبو عبيدة ، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدرة ؛ أي : فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، وأقوى هذه الأقوال الثالث ، ثم الأول ، ثم الثاني على ضعف فيه ( وإن تكفروا ) أي : وإن تستمروا على كفركم فإن لله ما في السماوات والأرض من مخلوقاته ، وأنتم من جملتهم ، ومن كان خاليا لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ، ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان ؛ لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ الزخرف : 87 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم الغلو : هو التجاوز في الحد ومنه غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى ، فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، وما أحسن قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم



                                                                                                                                                                                                                                      ولا تقولوا على الله إلا الحق وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله المسيح مبتدأ وعيسى بدل منه ، وابن مريم صفة لعيسى ، ورسول الله الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان والجملة تعليل للنهي ، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران ، قوله : ( وكلمته ) عطف على رسول الله ، و ألقاها إلى مريم حال ؛ أي : كونه بقوله كن فكان بشرا من غير أب ، وقيل ( كلمته ) بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله : إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه [ آل عمران : 45 ] وقيل : الكلمة هاهنا بمعنى الآية ، ومنه وصدقت بكلمات ربها [ التحريم : 12 ] وقوله : ما نفدت كلمات الله [ لقمان : 27 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ( وروح منه ) أي : أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله فيقال : هذا روح من الله ؛ أي : من خلقه ، كما يقال في النعمة : إنها من الله وقيل : ( روح منه ) أي : من خلقه كما قال تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] أي : من خلقه وقيل : ( روح منه ) أي : رحمة منه ، وقيل : ( روح منه ) أي : برهان منه ، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه ، وقوله : ( منه ) متعلق بمحذوف وقع صفة لروح ، أي : كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ فآمنوا بالله ورسله أي : بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم ، فتجعلوا بعضهم آلهة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا تقولوا ثلاثة ارتفاع ( ثلاثة ) على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج ؛ أي : لا تقولوا آلهتنا ثلاثة ، وقال الفراء وأبو عبيد ؛ أي : [ ص: 346 ] لا تقولوا : هم ثلاثة كقوله : ( سيقولون ثلاثة ) [ الكهف : 22 ] وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا : هو ثالث ثلاثة ، فحذف المبتدأ والمضاف ، والنصارى مع تفرق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون بالثلاثة ، الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم ، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود ، وأقنوم الحياة ، وأقنوم العلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح ، وقيل : المراد بالآلهة الثلاثة : الله سبحانه وتعالى ، ومريم ، والمسيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا ، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، وتارة يوصف بأنه ابن الرب ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين .

                                                                                                                                                                                                                                      والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين ، ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام ، وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه ، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط ، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ، ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا ، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها ، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام ، وكلام الله أصدق ، وكتابه أحق ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : انتهوا خيرا لكم أي : انتهوا عن التثليث ، وانتصاب ( خيرا ) هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله : فآمنوا خيرا لكم ، إنما الله إله واحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد سبحانه أن يكون له ولد أي : أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وما جعلتموه له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك ، والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا وكفى بالله وكيلا نكل الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله ، قالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله ( لكن الله يشهد ) الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل ، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال : يقول فيه قول الله : هو روح الله وكلمته ، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر ، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه ، وأخرجه البيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود بأطول من هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري ، عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية