الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ابن قصي

واسمه زيد ، وكنيته أبو المغيرة ، وإنما قيل له قصي لأن ربيعة بن حرام بن ضنة بن [ ص: 621 ] عبد كبير بن عذرة بن سعد بن زيد تزوج أمه فاطمة ابنة سعد بن سيل ، واسمه جبر بن جمالة بن عوف ، وهي أيضا أم أخيه زهرة ، ونقلها إلى بلاد عذرة من مشارف الشام ، وحملت معها قصيا لصغره ، وتخلف زهرة في قومه لكبره ، فولدت أمه فاطمة لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة ، فهو أخي قصي لأمه .

وكان لربيعة ثلاثة نفر من امرأة أخرى ، وهم حن بن ربيعة ومحمود وجلهمة .

وقيل : إن حنا كان أخا قصي لأمه . فشب زيد في حجر ربيعة ، فسمي قصيا لبعده عن دار قومه ، وكان قصي ينتمي إلى ربيعة إلى أن كبر ، وكان بينه وبين رجل من قضاعة شيء ، فعيره القضاعي بالغربة ، فرجع قصي إلى أمه وسألها عما قال ، فقالت له : يا بني أنت أكرم منه نفسا وأبا ، أنت ابن كلاب بن مرة وقومك بمكة عند البيت الحرام .

فصبر حتى دخل الشهر الحرام ، وخرج مع حاج قضاعة ، حتى قدم مكة وأقام مع أخيه زهرة ، ثم خطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى ، فزوجه ، وحليل يومئذ يلي الكعبة . فولدت أولاده : عبد الدار ، وعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وكثر ماله وعظم شرفه .

وهلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى ، فقالت : إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه ، فجعل فتح الباب وإغلاقه إلى ابنه المحترش ، وهو أبو غبشان . فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وبعود ، فضربت به العرب المثل فقالت : " أخسر صفقة من أبي غبشان " .

فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي ، فاستنصر أخاه رزاحا ، فحضر هو وإخوته الثلاثة فيمن تبعه من قضاعة إلى نصرته ، ومع قصي قومه بنو النضر ، وتهيأ لحرب خزاعة وبني بكر ، وخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا قتالا شديدا ، فكثرت القتلى في الفريقين والجراح ، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة ، فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالبيت ومكة من [ ص: 622 ] خزاعة ، وأن كل دم أصابه من خزاعة وبني بكرة موضوع فيشدخه تحت قدميه ، وأن كل دم أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففي ذلك الدية مؤداة ، فسمي بعمرو الشداخ بما شدخ من الدماء وما وضع منها . فولي قصي البيت وأمر مكة .

وقيل : إن حليل بن حبشية أوصى قصيا بذلك وقال : أنت أحق بولاية البيت من خزاعة . فجمع قومه وأرسل إلى أخيه يستنصره ، فحضر في قضاعة في الموسم ، وخرجوا إلى عرفات ، وفرغوا من الحج ونزلوا منى وقصي مجمع على حربهم ، وإنما ينتظر فراغ الناس من حجهم .

فلما نزلوا منى ولم يبق إلا الصدر ، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منى ، إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار ، ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي ، فإذا فرغوا من منى أخذت صوفة بناحيتي العقبة وحبسوا الناس ، فقالوا : " أجيزي صوفة " ، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس فانطلقوا بعدهم . فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل ، قد عرفت لها العرب ذلك ، فهو دين في أنفسهم ، فأتاهم قصي ومن معه من قومه ومن قضاعة فمنعهم وقال : نحن أولى بهذا منكم . فقاتلوه وقاتلهم قتالا شديدا ، فانهزمت صوفة ، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم ، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة . فلما انحازوا عنه بادأهم فقاتلهم ، فكثر القتل في الفريقين وأجلى خزاعة عن البيت ، وجمع قصي قومه إلى مكة من الشعاب والأودية والجبال ، فسمي مجمعا ، ونزل بني بغيض بن عامر بن لؤي وبني تيم الأدرم بن غالب بن فهر وبني محارب بن فهر وبني الحارث بن فهر ، إلا بني هلال بن أهيب رهط أبي عبيدة بن الجراح وإلا رهط عياض بن غنم ، بظواهر مكة ، فسموا قريش الظواهر ، وتسمى سائر بطون قريش قريش البطاح ، وكانت قريش الظواهر تغير وتغزو ، وتسمى قريش البطاح الضب للزومها الحرم .

[ ص: 623 ] فلما ترك قصي قريشا بمكة وما حولها ملكوه عليهم . فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاعه به قومه ، وكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ، فحاز شرف قريش كله ، وقسم مكة أرباعا بين قومه ، فبنوا المساكن واستأذنوه في قطع الشجر ، فمنعهم ، فبنوا والشجر في منازلهم ، ثم إنهم قطعوه بعد موته .

وتيمنت قريش بأمره فما تنكح امرأة ولا رجل إلا في داره ، ولا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره ، ولا يعقدون لواء للحرب إلا في داره ، يعقده بعض ولده ، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره ، وكان أمره في قومه كالدين المتبع في حياته وبعد موته . فاتخذ دار الندوة وبابها في المسجد ، وفيها كانت قريش تقضي أمورها .

فلما كبر قصي ورق ، وكان ولده عبد الدار أكبر ولده ، وكان ضعيفا ، وكان عبد مناف قد ساد في حياة أبيه وكذلك إخوته ، قال قصي لعبد الدار : والله لألحقنك بهم ! فأعطاه دار الندوة والحجابة ، وهي حجابة الكعبة ، واللواء ، وهو كان يعقد لقريش ألويتهم والسقاية ، كان يسقي الحاج ، والرفادة ، وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع منه طعاما للحاج يأكله الفقراء ، وكان قصي قد قال لقومه : إنكم جيران الله وأهل بيته ، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته ، وهم أحق الضيف بالكرامة ، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج . ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به الطعام أيام منى ، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام إلى الآن ، فهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء كل عام بمنى .

فأما الحجابة فهي في ولده إلى الآن ، وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار .

وأما اللواء فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام ، فقال بنو عبد الدار : يا رسول الله اجعل اللواء فينا . فقال : " الإسلام أوسع من ذلك " . فبطل .

وأما الرفادة والسقاية فإن بني عبد مناف بن قصي : عبد شمس ، وهاشم ، والمطلب ، ونوفل ، أجمعوا أن يأخذوها من بني عبد الدار لشرفهم عليهم وفضلهم ، فتفرقت عند ذلك قريش ، فكانت طائفة مع بني عبد مناف ، وطائفة مع بني عبد الدار لا [ ص: 624 ] يرون تغيير ما فعله قصي ، وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار .

فكان بنو أسد بن عبد العزى ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرة ، وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف ، وكان بنو مخزوم ، وبنو سهم ، وبنو جمح ، وبنو عدي مع بني عبد الدار ، فتحالف كل قوم حلفا مؤكدا ، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها عند الكعبة وتحالفوا وجعلوا أيديهم في الطيب ، فسموا المطيبين . وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف ، وتعبوا للقتال ، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة ، فرضوا بذلك وتحاجز الناس عن الحرب واقترعوا عليها ، فصارت لهاشم بن عبد مناف ، ثم بعده للمطلب بن عبد مناف ، ثم لأبي طالب بن عبد المطلب ، ولم يكن له مال فادان من أخيه العباس بن عبد المطلب بن عبد مناف مالا فأنفقه ، ثم عجز عن الأداء فأعطى العباس السقاية والرفادة عوضا عن دينه ، فوليها ، ثم ابنه عبد الله ، ثم علي بن عبد الله ، ثم محمد بن علي ، ثم داود بن علي بن سليمان بن علي ، ثم وليها المنصور وصار يليها الخلفاء .

وأما دار الندوة فلم تزل لعبد الدار ، ثم لولده حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار من معاوية فجعلها دار الإمارة بمكة ، وهي الآن في الحرم معروفة مشهورة .

ثم هلك قصي فأقام أمره في قومه من بعده ولده ، وكان قصي لا يخالف سيرته وأمره ، ولما مات دفن بالحجون ، فكانوا يزورون قبره ويعظمونه .

وحفر بمكة بئرا سماها العجول ، وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة .

[ ص: 625 ] ( سيل : بفتح السين المهملة ، والياء المثناة التحتية . وحرام : بفتح الحاء والراء المهملتين . ورزاح : بكسر الراء ، وفتح الزاي ، وبعد الألف حاء مهملة . وحبى : بضم الحاء المهملة ، وتشديد الباء الموحدة . وملكان : بكسر الميم ، وسكون اللام . وأما ملكان بن حزم بن ريان ، وملكان بن عباد بن عياض ، فهما بفتح الميم واللام ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية