الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا

[ ص: 393 ] قوله تعالى : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها فيه مسألتان :

[ الأولى ] في صحيح مسلم والبخاري : ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ) قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وكانت الأولى من موسى نسيانا قال : ( وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر )

قال علماؤنا : حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه ، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد . والعلم هنا بمعنى المعلوم ، كما قال : ولا يحيطون بشيء من علمه أي من معلوماته ، وهذا من الخضر تمثيل ; أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله ; كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر ، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر ما يشاهده مما بين أيدينا ، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم ، إذ لا نقص في علم الله ، ولا نهاية لمعلوماته . وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال : ( والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر ) وفي التفسير عن أبي العالية : لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه ، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة . وقيل : خرج أهل السفينة إلى جزيرة ، وتخلف الخضر فخرق السفينة ، وقال ابن عباس : ( لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية ، وقال في نفسه : ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر : يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك ؟ قال : نعم . قال : كذا وكذا قال : صدقت ; ذكره الثعلبي في كتاب العرائس .

الثانية : في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا ، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه وقال أبو يوسف : يجوز للولي أن يصانع السلطان [ ص: 394 ] ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي " ليغرق " بالياء " أهلها " بالرفع فاعل يغرق ، فاللام على قراءة الجماعة في لتغرق لام المآل مثل ليكون لهم عدوا وحزنا . وعلى قراءة حمزة لام كي ، ولم يقل لتغرقني ; لأن الذي غلب عليه في الحال فرط الشفقة عليهم ، ومراعاة حقهم .

إمرا معناه عجبا ; قاله القتبي ، وقيل : منكرا ; قاله مجاهد ، وقال أبو عبيدة : الإمر الداهية العظيمة ; وأنشد :


قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا



وقال الأخفش : يقال أمر أمره يأمر " أمرا " إذا اشتد ، والاسم الإمر .

قوله تعالى : قال لا تؤاخذني بما نسيت في معناه قولان :

أحدهما : يروى عن ابن عباس ، قال : ( هذا من معاريض الكلام ) . والآخر : أنه نسي فاعتذر ; ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ، وأنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره ; وقد تقدم ، ولو نسي في الثانية لاعتذر .

التالي السابق


الخدمات العلمية