الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 136 ] الخصيصة الثالثة : امتناع العتق بالمرض ، سبق في كتاب الوصايا أن التبرعات في مرض الموت تحسب من الثلث ، وأن العتق من التبرعات وقد يندفع لوقوعه في المرض ، وإنما يعتبر الثلث بعد حط قدر الدين ، فلو كان الدين مستغرقا ، لم يعتق شيء منه ، فإن أعتق عبد لا مال له سواه ، لم يعتق إلا ثلثه ، وإن مات هذا العبد بعد موت السيد ، مات ، وثلثه حر ، وإن مات قبل موت السيد ، فهل يموت كله رقيقا ، أم كله حرا ، أم ثلثه حرا وباقيه رقيقا ؟ فيه أوجه . أصحها عند الصيدلاني : الأول ، وبه أجاب الشيخ أبو زيد في مجلس الشيخ أبي بكر المحمودي ، فرضيه وحمده عليه ; لأن ما يعتق ينبغي أن يحصل للورثة مثلاه ، ولم يحصل لهم هنا شيء ، وتظهر فائدة الخلاف في شيئين : أحدهما : لو وهب في المرض عبدا لا يملك غيره ، وأقبضه ، ومات العبد قبل السيد ، فإن قلنا في مسألة العتق ، يموت رقيقا مات هنا على ملك الواهب ، ويلزمه مئونة تجهيزه . وإن قلنا : يموت حرا ، مات هنا على ملك الموهوب له ، فعليه تجهيزه . وإن قلنا بالثالث ، وزعت المئونة عليهما .

                                                                                                                                                                        الثاني : إذا كان لهذا العبد ولد من معتقه ، كان ولاء الولد لموالي أمه ، فإن قلنا : يموت حرا ، أنجز الولاء إلى معتق الأب ، وإن قلنا : يعتق ثلثه ، أنجز ولاء ثلثه . ولو أعتق في مرضه عبدا ، وله مال سواه ، ومات العتيق قبل موت السيد ، قال الإمام : قال جماهير الأصحاب : لا يجب من الثلث ، ويجعل كأنه لم يكن ; لأن الوصية إنما تتحقق بالموت ، فإذا لم تبق إلى الموت ، لم يدخل في الحساب ، قال : ويجيء على قولنا حكمه بعد الموت كحكمه لو عاش ، أن يحسب [ ص: 137 ] من الثلث . ولو وهب عبدا ، وأقبضه ، وله مال آخر فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب ، فهو كما لو أعتقه ، كما أن هبته ولا مال له سواه كإعتاقه ولا مال له سواه . ولو أتلفه المتهب ، فهو كما لو كان باقيا ، حتى إذا كان له مال آخر ، يحسب الموهوب من الثلث ، وإذا لم يخرج من الثلث ، يغرم الموهوب للورثة ما زاد على الثلث ، بخلاف ما إذا تلف ; لأن الهبة ليست مضمنة ، والإتلاف مضمن على كل حال ، وللإمام احتمال في إلحاق التلف بالإتلاف وعكسه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أعتق ثلاثة أعبد لا يملك غيرهم قيمتهم سواء ، فمات أحدهم قبل موت السيد ، فالذي نص عليه الشافعي رحمه الله ، وأطبق عليه فرق الأصحاب : أن الميت يدخل في القرعة ، قال الإمام : وقياس ما ذكرنا في العبد الواحد أن يجعل الفائت كالمعدوم ، ويجعل كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما ، وجعل الغزالي هذا الاحتمال وجها ، والتفريع على الأول ، فإن خرجت القرعة على الميت ، بان أنه مات حرا موروثا عنه ، ورق الآخران ، وإن خرج عليه سهم الرق ، لم يحسب على الورثة ، لأنهم يريدون المال ، ويحتسب به عن المعتق لأنه يريد الثواب ، وتعاد القرعة بين العبدين ، كما لو لم يكن إلا عبدان ، فأعتقهما ، فمن خرج له سهم العتق ، عتق ثلثاه ، ورق ثلثه مع العبد الآخر . ولو خرج سهم العتق أولا على أحد الحيين ، فكذلك يعتق ثلثاه . ولو مات أحدهم بعد موت السيد وقبل امتداد يد الوارث إلى التركة ، فالحكم كما [ ص: 138 ] لو مات قبل موت السيد ، ولفظ الصيدلاني يقتضي الاكتفاء بأن لا يكون الميت في يده لثبوت الحكم المذكور . وإن مات بعد امتداد يد الوارث إلى التركة ، وقبل الإقراع ، فوجهان . أصحهما : يحسب الميت على الوارث ، حتى لو خرجت القرعة لأحد الحيين ، عتق كله ; لأن الميت دخل في يده وضمانه .

                                                                                                                                                                        والثاني : أنه كما لو مات قبل ثبوت يده على التركة ; لأنه لم يتسلط على التصرف . ولو مات اثنان منهم قبل موت السيد ، قال ابن أبي هريرة : يقرع بينهم ، فإن خرج سهم العتق على أحد الميتين ، صح عتق نصفه ، وجعل للورثة مثلاه ، وهو العبد الحي . وإن خرج سهم الرق عليه ، أقرعنا بين الميت الآخر والحي ، فإن خرج سهم الحرية على الميت الآخر ، أعتقنا نصفه ، وإن خرج سهم الرق عليه ، لم يحسب على الورثة ، وأعتقنا ثلث الحي . ولو قتل أحد العبيد قبل موت السيد أو بعده ، دخل القتيل في القرعة قطعا ; لأن قيمته تقوم مقامه ، فإن خرج سهم العتق لأحد الحيين ، عتق كله ، ولورثة الآخر قيمة القتيل ، وإن خرج للقتيل ، بان أنه قتل حرا ، وعلى قاتله الدية لورثته ، وأما القصاص فعن بعض الأصحاب أنه لا يجب إن كان قاتله حرا ، بخلاف ما إذا قال لعبده : إن جرحك أحد ، فأنت حر قبله ، فجرحه حر ، ومات بالجراحة ، وجب القصاص ; لأن الحرية متعينة فيه ، وهنا التعيين بالقرعة . قال البغوي : يحتمل أن يكون في المسألتين وجهان ; لأنه قتل من اعتقد رقه كما لو قتل من عرفه رقيقا فبان عتيقا ، ففي القصاص قولان .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية