الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ، ولو في صورة واحدة ، فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا ، عند من يراه قادحا ، وأما من لم يره قادحا; فلا يسميه نقضا ، بل يجعله من باب تخصيص العلة .

                        وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا .

                        وينحصر النقض في تسع صور ; لأن العلة إما منصوصة قطعا ، أو ظنا ، أو مستنبطة ، وتخلف الحكم عنها إما لمانع ، أو فوات شرط ، أو بدونهما .

                        وقد اختلف الأصوليون في هذا الاعتراض على مذاهب :

                        ( الأول ) : أنه يقدح في الوصف المدعى علة مطلقا ، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة ، وسواء كان تخلف الحكم لمانع أو لا لمانع ، وهو مذهب المتكلمين ، وهو اختيار أبي الحسين البصري ، والأستاذ أبي إسحاق ، والفخر الرازي وأكثر أصحاب الشافعي ، ونسبوه إلى الشافعي ، ورجحوا أنه مذهبه .

                        ( المذهب الثاني ) : أنه لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء النقض ، ويتعين بتقدير مانع ، أو تخلف شرط ، وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ، مالك وأحمد .

                        ( المذهب الثالث ) : أنه لا يقدح في المنصوصة ، ويقدح في المستنبطة ، حكاه إمام الحرمين عن المعظم ، فقال : ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة .

                        وقال في المحصول : زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته .

                        ( المذهب الرابع ) : أنه يقدح في المنصوصة دون المستنبطة ، عكس الذي قبله ، حكاه بعض أهل الأصول ، وهو ضعيف جدا .

                        [ ص: 649 ] ( المذهب الخامس ) : أنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو عدم شرط ، ويقدح في المنصوصة ، حكاه ابن الحاجب ، وقد أنكروه عليه ، وقالوا لعله فهم ذلك من كلام الآمدي ، وفي كلام الآمدي ما يدفعه .

                        ( المذهب السادس ) : أنه لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا ، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة ، فإن لم يكن مانع قدح ، واختاره البيضاوي ، والصفي الهندي .

                        ( المذهب السابع ) : أنه يقدح في المستنبطة في صورتين ، إذا كان التخلف لمانع ، أو انتفاء شرط ، ولا يقدح في صورة واحدة ، وهي ما إذا كان التخلف بدونهما .

                        وأما المنصوصة : فإن كان النص ظنيا ، وقدر مانع ، أو فوات شرط; جاز ، وإن كان قطعيا لم يجز ، أي لم يكن وقوعه; لأن الحكم لو تخلف الدليل .

                        وحاصله : أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام ، ولا يقدح في المستنبطة إلا لمانع ، أو فقد شرط ، واختاره ابن الحاجب وهو قريب من كلام الآمدي .

                        ( المذهب الثامن ) : أنه يقدح في علة الوجوب والحل ، دون علة الحظر ، حكاه القاضي عن بعض المعتزلة .

                        ( المذهب التاسع ) : أنه يقدح إن انتقضت على أصل من جعلها علة ، ولم يلزمه الحكم بها ، وإن اطردت على أصله ألزم ، حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين ، قال : وهو من حشو الكلام ، لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى .

                        ( المذهب العاشر ) : إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها; لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه ، ومثله لا ينقض ، حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد ، ورده بأن النقض يفيد عدم تأثير العلة .

                        ( المذهب الحادي عشر ) : إن كانت العلة مستنبطة ، فإن اتجه فرق بين محل التعليل ، وبين صورة النقض بطلت عليته; لكون المذكور أولا جزءا من العلة ، وليست علة تامة ، وإن لم يتجه فرق بينهما ، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه ، أو ثابتا بمسلك سمعي بطلت عليته ، وإلا فلا ، واختاره إمام الحرمين الجويني .

                        [ ص: 650 ] ( المذهب الثاني عشر ) : إن تخلف الحكم عن العلة وله ثلاث صور :

                        ( الصورة الأولى ) : أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها ، فإنه يقدح .

                        ( الثانية ) : أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها ، لكن لمعارضة علة أخرى ، فهذه لا تقدح .

                        ( الثالثة ) : أن يتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة ، لكن لعدم مصادفتها محلها ، أو شرطها ، فلا يقدح ، وهذا اختيار الغزالي ، وفي كلامه طول .

                        ( المذهب الثالث عشر ) : إن كان النقض من جهة المستدل فلا يقدح; لأن الدليل قد يكون صحيحا في نفسه ، وينقضه المستدل ، فلا يكون نقضه دليلا على فساده; لأنه قد ينقضه على أصله ، ويكون أصل غيره مخالفا له ، وإن كان النقض من جهة المعترض قدح ، حكاه الأستاذ أبو منصور .

                        ( المذهب الرابع عشر ) : أن علية الوصف إن ثبتت بالمناسبة ، أو الدوران ، وكان النقض بتخلف الحكم عنها لمانع ; لم يقدح في عليته ، وإن كان التخلف لا لمانع قدح ، حكاه صاحب المحصول ونسبه إلى الأكثرين .

                        ( المذهب الخامس عشر ) : أن الخلاف في هذه المسألة لفظي; لأن العلة إن فسرت بالموجبة ، فلا يتصور عليتها مع الانتقاض ، وإن فسرت بالمعرفة ، فيتصور عليتها مع الانتقاض ، وهذا رجحه الغزالي ، والبيضاوي ، وابن الحاجب ، وفيه نظر ، فإن الخلاف معنوي ، لا لفظي ، على كل حال .

                        قال الزركشي في البحر : واعلم أنه إذا قال المعترض : ما ذكرت من العلة منقوض بكذا ، فللمستدل أن يقول : لا نسلم ، ويطالبه بالدليل على وجودها في محل النقض ، وهذه المطالبة مسموعة بالاتفاق انتهى .

                        قال الأصفهاني : لا يشترط في القيد الدافع للنقض أن يكون مناسبا ، بل غير المناسب مقبول مسموع اتفاقا ، والمانعون من التعليل بالشبه يوافقون على ذلك .

                        وقال في المحصول : هل يجوز دفع النقض بقيد طردي ، أما الطاردون فقد جوزوه [ ص: 651 ] وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه ، والحق أنه لا يجوز; لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا; لم يكن مجموع العلة مؤثرا ، وهكذا قال إمام الحرمين في هذا البرهان ، ثم اختار التفصيل بين أن يكون القيد الطردي يشير إلى مسألة تفارق مسألة النزاع بفقه ، فلا يجوز نقض العلة ، وإلا فلا يفيد الاحتراز عنه ، قال : ولو فرض التقييد باسم غير مشعر بفقه ، ولكن مباينة المسمى به لما عداه مشهورة بين النظار ، فهل يكون التقييد بمثله تخصيصا للعلة ؟ اختلف فيه الجدليون ، والأقرب تصحيحه; لأنه اصطلاح .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية