الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين صدقوا الله ورسوله "وهاجروا" ، يعني : هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم ، يعني : تركوهم وخرجوا عنهم ، وهجرهم قومهم وعشيرتهم ( وجاهدوا في سبيل الله ) ، يقول : بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصابها في حرب أعداء الله من الكفار ( في سبيل الله ) ، يقول : في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه ( والذين آووا ونصروا ) ، يقول : والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه ، يعني : أنهم جعلوا لهم مأوى يأوون إليه ، وهو المثوى والمسكن ، يقول : أسكنوهم ، وجعلوا لهم من منازلهم مساكن إذ أخرجهم قومهم من منازلهم ( ونصروا ) ، يقول : ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين ( أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، يقول : هاتان الفرقتان ، يعني المهاجرين والأنصار ، بعضهم أنصار بعض ، وأعوان على من سواهم من [ ص: 78 ] المشركين ، وأيديهم واحدة على من كفر بالله ، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار .

وقد قيل : إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض ، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة ، دون القرابة والأرحام ، وأن الله نسخ ذلك بعد بقوله : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، [ سورة الأنفال : 75 \ وسورة الأحزاب : 6 ] .

ذكر من قال ذلك :

16331 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، يعني : في الميراث ، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، قال الله : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) ، يقول : ما لكم من ميراثهم من شيء ، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) [ سورة الأنفال : 75 \ وسورة الأحزاب : 6 ] ، في الميراث ، فنسخت التي قبلها ، وصار الميراث لذوي الأرحام .

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ 16332 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، يقول : لا هجرة بعد الفتح ، إنما هو الشهادة بعد ذلك ( والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، إلى قوله : ( حتى يهاجروا ) . وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل : منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة ، خرج إلى [ ص: 79 ] قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم و ( آووا ونصروا ) ، وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة ، وشهروا السيوف على من كذب وجحد ، فهذان مؤمنان ، جعل الله بعضهم أولياء بعض ، فكانوا يتوارثون بينهم ، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاري بالولاية في الدين . وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر ، فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم ، وهي الولاية التي قال الله : ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) . وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا ، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فلا نصر لهم عليهم ، إلا على العدو الذين لا ميثاق لهم ، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا ، فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا بقوله : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) [ سورة الأنفال : 75 ] ، وبقوله : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) [ سورة التوبة : 71 ] .

16333 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الثلاث الآيات خواتيم الأنفال ، فيهن ذكر ما كان من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث ، ثم نسخ ذلك آخرها : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) .

16334 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قوله : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ) ، إلى قوله : ( بما تعملون بصير ) ، قال : بلغنا أنها كانت في الميراث ، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا ، والمؤمنون الذين لم يهاجروا . قال : ثم نزل بعد : ( فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) ، فتوارثوا ولم يهاجروا قال ابن جريج ، قال مجاهد : خواتيم "الأنفال" الثلاث الآيات ، فيهن ذكر ما كان والى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث ، ثم نسخ ذلك آخرها : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) .

16335 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) ، إلى قوله : ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) ، قال : لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا ، فنسخ ذلك بعد ذلك ، فألحق الله ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) ، [ سورة الأحزاب : 6 ] ، أي : من أهل الشرك ، فأجيزت الوصية ، ولا ميراث لهم ، وصارت المواريث بالملل ، والمسلمون يرث بعضهم بعضا من المهاجرين والمؤمنين ، ولا يرث أهل ملتين .

16336 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن قالا ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ) ، إلى قوله : ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر ، ولا يرثه المهاجر ، فنسخها فقال : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ) .

16337 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : [ ص: 81 ] حدثنا أسباط ، عن السدي : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، في الميراث ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ) ، وهؤلاء الأعراب ( ما لكم من ولايتهم من شيء ) ، في الميراث ( وإن استنصروكم في الدين ) يقول : بأنهم مسلمون ( فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) ، في الميراث ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) ، ثم نسختها الفرائض والمواريث ، "وأولو الأرحام" . الذين توارثوا على الهجرة ( بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، فتوارث الأعراب والمهاجرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية