الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الباب الرابع : في تعارض العمومين ، ووقت جواز الحكم بالعموم ، وفيه فصول :

              الفصل الأول : في التعارض .

              اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض ، فنقول كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها ، وتكاذبها ، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل فإما أن لا يكون متواترا فيعلم أنه غير صحيح ، وإما أن يكون متواترا ، فيكون مؤولا ، ولا يكون متعارضا .

              وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ ، والتأويل ، وهو على خلاف دليل العقل فذلك محال ; لأن دليل العقل لا يقبل النسخ ، والبطلان ، مثال ذلك المؤول في العقليات قوله تعالى : { خالق كل شيء } إذ خرج بدليل العقل ذات القديم وصفاته ، وقوله : { وهو بكل شيء عليم } دل العقل على عمومه ، ولا يعارضه قوله تعالى : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } إذ معناه ما لا يعلم له أصلا أي : يعلم أنه لا أصل له ، ولا يعارضه قوله تعالى : { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } إذ معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة ، وحاصلة ، وفي الأزل لا يوصف علمه بتعلقه بحصول المجاهدة قبل حصولها .

              وكذلك قوله تعالى : { وتخلقون إفكا } لا يعارض قوله : { خالق كل شيء } ; لأن المعني به الكذب دون الإيجاد ، وكذلك قوله تعالى : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } ; لأن معناه تقدر [ ص: 253 ] والخلق هو التقدير ، وكذلك قوله : { أحسن الخالقين } أي : المقدرين ، وهكذا أبدا تأويل ما خالف دليل العقل أو خالف دليلا شرعيا دل العقل على عمومه . أما الشرعيات فإذا تعارض فيها دليلان فإما أن يستحيل الجمع أو يمكن ، فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلا { من بدل دينه فاقتلوه } من بدل دينه فلا تقتلوه . { لا يصح نكاح بغير ولي } ، " يصح نكاح بغير ولي " .

              فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخا ، والآخر منسوخا ، فإن أشكل التاريخ فيطلب الحكم من دليل آخر ، ويقدر تدافع النصين ، فإن عجزنا عن دليل آخر فنتخير العمل بأيهما شئنا ; لأن الممكنات أربعة : العمل بهما ، وهو متناقض ، أو اطراحهما ، وهو إخلاء الواقعة عن الحكم ، وهو متناقض ، أو استعمال واحد بغير مرجح ، وهو تحكم ، فلا يبقى إلا التخير الذي يجوز ورود التعبد به ابتداء فإن الله تعالى لو كلفنا واحدا بعينه لنصب عليه دليلا ، ولجعل لنا إليه سبيلا ، إذ لا يجوز تكليف بالمحال .

              ، وفي التخيير بين الدليلين المتعارضين مزيد غور سنذكره في كتاب الاجتهاد عند تخير المجتهد ، وتحيره . أما إذا أمكن الجمع بوجه ما فهو على مراتب :

              المرتبة الأولى : عام ، وخاص ، كقوله عليه السلام : { فيما سقت السماء العشر } مع قوله : { لا صدقة فيما دون خمسة أوسق } فقد ذكرنا من مذهب القاضي أن التعارض واقع لإمكان كون أحدهما نسخا بتقدير إرادة العموم بالعام ، والمختار أن يجعل بيانا ، ولا يقدر النسخ إلا لضرورة فإن فيه تقدير دخول ما دون النصاب تحت وجوب العشر ثم خروجه منه ، وذلك لا سبيل إلى إثباته بالتوهم من غير ضرورة .

              المرتبة الثانية : وهي قريبة من الأولى : أن يكون اللفظ المؤول قويا في الظهور بعيدا عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة ، فكلام القاضي فيه أوجه ، ومثاله قوله : عليه السلام : { إنما الربا في النسيئة } كما رواه ابن عباس ، فإنه كالصريح في نفي ربا الفضل ، ورواية عبادة بن الصامت في قوله : { الحنطة بالحنطة مثلا بمثل } صريح في إثبات ربا الفضل ، فيمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر ، ويمكن أن يكون قوله : { إنما الربا في النسيئة } أي : في مختلفي الجنس ، ويكون قد خرج على سؤال خاص عن المختلفين أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال ، والجمع بهذا التقدير ممكن ، والمختار أنه ، وإن بعد أولى من تقدير النسخ ، وللقاضي أن يقول : قطعكم بأنه أراد به الجنسين تحكم لا يدل عليه قاطع ، ويخالف ظاهر اللفظ المفيد للظن ، والتحكم بتقدير ليس يعضده دليل قطعي ، ولا ظني لا وجه له .

              قلنا : يحملنا عليه ضرورة الاحتراز عن النسخ ، فيقول : فما المانع من تقدير النسخ ، وليس في إثباته ارتكاب محال ، ولا مخالفة دليل قطعي ، ولا ظني ؟ ، وفيما ذكرتم مخالفة صيغة العموم ، ودلالة اللفظ ، وهو دليل ظني ، فما هو الخوف ، والحذر من النسخ ، وإمكانه كإمكان البيان فليس أحدهما بأولى من الآخر ؟ فإن قلنا : البيان أغلب على عادة الرسول عليه السلام من النسخ ، وهو أكثر وقوعا فله أن يقول : وما الدليل على جواز الأخذ بالاحتمال الأكثر ؟ وإذا اشتبهت رضيعة بعشر نسوة فالأكثر حلال ، وإذا اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للأكثر بل لا بد من الاجتهاد ، والدليل ، ولا يجوز أن يأخذ واحدا ، ويقدر حله أو طهارته ; لأن جنسه أكثر .

              لكنا نقول : الظن [ ص: 254 ] عبارة عن أغلب الاحتمالين ، ولكن لا يجوز اتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر ، وأغلب من كذبه وصيغة العموم تتبع ; لأن إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب ، وأكثر من وقوع غيره ، والفرق بين الفرع ، والأصل ممكن غير مقطوع ببطلانه في الأقيسة الظنية لكن الجمع أغلب على الظن ، واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظنا لكن لعمل الصحابة به ، واتفاقهم عليه ، فكذا نعلم من سيرة الصحابة أنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره ، ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } ، وألفاظ نادرة ، بل قدروا جملة ذلك بيانا ، وورد العام ، والخاص في الأخبار ، ولا يتطرق النسخ إلى الخبر كقوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } تخصيصا لقوله تعالى : { هذا يوم لا ينطقون } ، وتخصيص قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } ، و { تدمر كل شيء بأمر ربها } ، و { يجبى إليه ثمرات كل شيء } ، وكانوا لا ينسخون إلا بنص ، وضرورة أما بالتوهم فلا .

              ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما إذا لم يظهر التاريخ ، وفي جعله بيانا استعمالهما ، وإذا تخيرنا بين الاستعمال ، والإسقاط فالاستعمال هو الأصل ، ولا يجوز الإسقاط إلا لضرورة

              تنبيه : اعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان ، مثاله قوله : { لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب } عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } ; لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين

              أحدهما : أن لا يثبت في اللسان اختصاص اسم الإهاب بغير المدبوغ فقد قيل : ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا فإذا دبغ فأديم وصرم ، وغيره ، فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين .

              الثاني : أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال : { ألا أخذوا إهابها فدبغوه ، وانتفعوا به } وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ، ثم كتب { لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب } فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا ، فيكون بيانا لا ناسخا ; لأن شرط النسخ التراخي .

              المرتبة الثالثة من التعارض : أن يتعارض عمومان ، فيزيد أحدهما على الآخر من وجه ، وينقص عنه من وجه ، مثاله قوله : عليه السلام { من بدل دينه فاقتلوه } فإنه يعم النساء ، مع قوله : { نهيت عن قتل النساء } فإنه يعم المرتدات ، وكذلك قوله : { نهيت عن الصلاة بعد العصر } فإنه يعم الفائتة أيضا ، مع قوله { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } فإنه يعم المستيقظ بعد العصر .

              ، وكذلك قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } فإنه يشمل جمع الأختين في ملك اليمين أيضا مع قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فإنه يحل الجمع بين الأختين بعمومه ، فيمكن أن يخصص قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } بجمع الأختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فهو على مذهب القاضي تعارض ، وتدافع بتقدير النسخ ، ويشهد له قول علي ، وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة أعني : جمع أختين [ ص: 255 ] في ملك اليمين فقالا : " حرمتهما آية ، وحللتهما آية " .

              أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح ، وقد ظهر ، فنقول : حفظ عموم قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } أولى لمعنيين أحدهما أنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالاتفاق ، إذ قد استثني عن تحليل ملك اليمين المشتركة والمستبرأة ، والمجوسية ، والأخت من الرضاع ، والنسب ، وسائر المحرمات ، أما الجمع بين الأختين فحرام على العموم الثاني : أن قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } سيق بعد ذكر المحرمات ، وعدها على الاستقصاء إلحاقا لمحرمات تعم الحرائر ، والإماء ، وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات ، والسراري فلا يظهر منه قصد البيان .

              فإن قيل : هل يجوز أن يتعارض عمومان ، ويخلوا عن دليل الترجيح ؟ قلنا قال قوم : لا يجوز ذلك ; لأنه يؤدي إلى التهمة ، ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين ، وهو منفر عن الطاعة ، والاتباع ، والتصديق ، وهذا فاسد بل ذلك جائز ، ويكون ذلك مبينا لأهل العصر الأول ، وإنما خفي علينا لطول المدة ، واندراس القرائن ، والأدلة ، ويكون ذلك محنة ، وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير ، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال ، وأما ما ذكروه من التنفير ، والتهمة فباطل ، ; لأن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى : { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } الآية ، ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية