الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 158 ] والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم

كان فاشيا في الجاهلية رمي بعضهم بعضا بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفا أو محادثة .

وكان فاشيا فيهم الطعن في الأنساب بهتانا إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن ، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنا إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف . وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله : الزانية والزاني فاجلدوا الآية .

والرمي حقيقته : قذف شيء من اليد . وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص . وتقدم في قوله تعالى : ثم يرم به بريئا في سورة النساء . وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات .

والمحصنات : هن المتزوجات من الحرائر . والإحصان : الدخول بزوج بعقد النكاح . والمحصن : اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه ، فالزوج يحصن امرأته ، أي : يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال . وهذا كتسمية الأبكار مخدرات ومقصورات ، وتقدم في سورة النساء . ولا يطلق وصف ( المحصنات ) إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام .

وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف ، أي : إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعا ، ومن البين [ ص: 159 ] أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف ; لأن معنى يأتوا بأربعة شهداء لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء . والجلد تقدم آنفا . وشرع هذا الجلد عقابا للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك .

وأسند فعل ( يرمون ) إلى اسم الموصول المذكر وضمائر ( تابوا وأصلحوا ) وكذلك وصف ( الفاسقون ) بصيغ التذكير . وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سبب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس . ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى ; لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل .

وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها ; لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه ، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه ، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس .

أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل ; فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقا بأن لا يؤخذ بشهادته .

والأبد : الزمن المستقبل كله .

واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة .

والحصر في قوله : وأولئك هم الفاسقون للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ما عداه من الفسوق لا يعد فسقا .

والاستثناء في قوله : ( إلا الذين تابوا ) حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم [ ص: 160 ] قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد ، بقرينة قوله : " من بعد ذلك " ، أي : بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها . وقال أبو حنيفة وجماعة : الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جريا على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة .

والتوبة : الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك . وقد تقدم ذكر التوبة في ذكر النساء عند قوله تعالى : إنما التوبة على الله الآيات . وليس من شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور ، وهو قول مالك ; لأنه قد يكون صادقا ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة ، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره . وقال قوم : لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه . وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي ، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة ; لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة بن شعبة . وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة ; لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف .

ومعنى ( أصلحوا ) فعلوا الصلاح ، أي : صاروا صالحين . فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق ، أي : أصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : قالوا إنما نحن مصلحون وقوله : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا في سورة البقرة .

وفرع ( فإن الله غفور رحيم ) على ما يقتضيه الاستثناء من معنى : فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فإن الله غفور رحيم ، أي : فإن الله أمر بالمغفرة لهم ; لأنه غفور رحيم ، كما قال في آية البقرة : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم .

وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا ; لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعد ما كتموه وكتمه سلفهم .

[ ص: 161 ] وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى ، وهو قول أبي حنيفة . وقال مالك والشافعي : حق المقذوف . وترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف .

وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كان أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى . فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية