الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2181 - مسألة : الإقرار بالحد بعد مدة ، وأيهما أفضل الإقرار أم الاستتار به ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في ذلك ، فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى - : فنظرنا فيما احتجت به الطائفة المختارة للستر ، وأن جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح ، وأن الاعتراف مباح ، إنما اختلفوا في الأفضل ، ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن المعترف بما عمل مما يوجب الحد : عاص لله تعالى في اعترافه ، ولا قال أحد من أهل الإسلام قط : إن الساتر على نفسه ما أصاب من حد : عاص لله تعالى : فنظرنا في تلك الأخبار التي جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شيء ، [ ص: 51 ] إلا خبرا واحدا في آخرها ، لا حجة لهم فيه ، على ما نبين إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر هزال الذي صدرنا به من طريق شعبة عن محمد بن المنكدر عن ابن هزال عن أبيه : فمرسل ، فلا حجة فيه ; لأنه مرسل .

                                                                                                                                                                                          وكذلك الذي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن ابن المنكدر - ويزيد بن النعيم أيضا مرسل .

                                                                                                                                                                                          وكذلك حديث مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري : مرسل أيضا .

                                                                                                                                                                                          وحديث الليث عن يحيى بن سعيد مرسل أيضا - فبطل الاحتجاج برواية يحيى بن سعيد - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار ، فوجدناه لا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه مرسل ، والثاني : أن عكرمة بن عمار ضعيف .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيه من طريق حبان بن هلال عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن يزيد بن نعيم بن هزال الأنصاري عن عبد الله بن دينار فوجدناه أيضا مرسلا .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيه من طريق ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار : فوجدناه أيضا مرسلا .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيه من رواية معمر عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال : فوجدناه أيضا مرسلا .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيه من رواية الحبلي عن أبي قلابة - فوجدناه مرسلا .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث حماد بن سلمة ، ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو - وأبو أمية المخزومي ولا يدرى من هو ؟ وهو أيضا مرسل ، وحتى لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة ، لأنه ليس فيه إلا { ما إخالك سرقت } ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق - فلو صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي سيق إليه بالسرقة { ما إخالك سرقت } لكنا على [ ص: 52 ] يقين من أنه عليه السلام قد صدق في ذلك ، وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق ، وليس في هذا تلقين له ، ولا دليل على أن الستر أفضل - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث مسلم في الإجهاد فلا حجة فيه لوجهين :

                                                                                                                                                                                          أحدهما : أنه من رواية محمد بن عبد الله بن أخي الزهري ، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة أصلا ، لأن الإجهاد المذكور إنما هو ما ذكره المرء مفتخرا به ، لأنه ليس في هذا الخبر أنه يخبر به الإمام معترفا ليقام عليه كتاب الله تعالى ، وإنما فيه ذم المجاهرة بالمعصية - وهذا لا شك فيه حرام .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في حديث مسلم الذي رواه ابن شهاب عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن المعترف مرات } فوجدناه صحيحا لا داخلة فيه لأحد ، إلا أنه لا حجة لهم فيه ، لأن الناس في سبب إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه على قولين : فطائفة قالت : إنما أعرض عنه ، لأن الإقرار بالزنى لا يتم إلا [ ص: 53 ] بتمام أربع مرات ، وطائفة قالت : إنما أعرض عنه - عليه السلام - لأنه ظن أن به جنونا ، أو شرب خمرا - ولم يقل أحد من الأمة : أن الحاكم إذا ثبت عنده الإقرار بالحد جاز له أن يستره ولا يقيمه - فبطل تعلقهم بهذا الخبر ، وسنستقصي الكلام في تصحيح أحد هذين الوجهين بعد هذا - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلم يبق لهذه الطائفة خبر يتعلقون به أصلا ؟ ثم نظرنا فيما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - فوجدناه أيضا لا يصح منه شيء : أما الرواية عن أبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - في قولهما للأسلمي : استتر بستر الله ، فلا تصح ، لأنها عن سعيد بن المسيب مرسلة .

                                                                                                                                                                                          وكذلك حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر فهو مرسل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى ، فوجدنا الرواية عن الصحابة أن الطائفة منهم قالت : ما توبة أفضل من توبة ماعز : جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وقال : اقتلني بالحجارة .

                                                                                                                                                                                          فصح هذا من قول طائفة عظيمة من الصحابة - رضي الله عنهم - بل لو قلنا : إنه لا مخالف لهذه الطائفة من الصحابة - رضي الله عنهم - لصدقنا ، لأن الطائفة الأخرى لم تخالفها ، وإنما قالت : لقد هلك ماعز ، لقد أحاطت به خطيئته - فإنما أنكروا أمر الخطيئة لا أمر الاعتراف ، فوجدنا تفضيل الاعتراف لم يصح عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - خلافه .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتجوا به من الآثار : فوجدناها في غاية الصحة والبيان ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد توبة ماعز ، والغامدية ، وذكر عليه السلام : أن توبة ماعز لو قسمت بين أمة لوسعتهم - وأن الغامدية لو تاب توبتها صاحب مكس لغفر له - وأن الجهينية لو قسمت توبتها بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، ثم رفع - عليه السلام - الإشكال جملة ، فقال : إنها لم تجد أفضل من أن جادت بنفسها لله . [ ص: 54 ]

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ومن البرهان على ذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                          ما رويناه من طريق مسلم أنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وإسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن سفيان بن عيينة - واللفظ لعمرو ، قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن { عبادة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئا فستره الله عليه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه } .

                                                                                                                                                                                          قال علي رحمه الله : فارتفع الإشكال جملة - والحمد لله رب العالمين - وصح بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه أمته ، ونصيحته إياهم بأحسن ما علمه ربه تعالى ، أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له - وأن من أقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب ، وكفره الله تعالى عنه - وبالضرورة ندري : أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في إمكانها أو عذاب الآخرة ، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار ؟ - نعوذ بالله منها - فكيف من أكثر من ذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن اعتراف المرء بذنبه عند الإمام أفضل من الستر بيقين ، وأن الستر مباح بالإجماع - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية