الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ويوم نسير الجبال منصوب ب «اذكر» مضمرا؛ أي: اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبئ عنه قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، وقيل: نسير أجزاءها بعد أن يجعلها هباء منبثا، والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب؛ أي: واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى: وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا واعترض [ ص: 288 ] كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا، ثم هباء منبثا، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون ( يوم ) ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى: ( قد جئتمونا ) إلخ؛ أي: قلنا يوم كذا: لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى: ( عند ربك ) فهو معمول ( خير ) أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من «عند ربك» في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب: «تسير الجبال» برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي: سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو: «تسير الجبال» بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال.

                                                                                                                                                                                                                                      وترى الأرض خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية؛ أي: وترى جميع جوانب الأرض بارزة بادية ظاهرة، أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار، وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل: إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد: ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عيسى: «وترى الأرض» ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وحشرناهم أي: جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قيل يكون ذلك مذكورا، وإيثار الماضي بعد «نسير» و «ترى» للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون، وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا، وقال الزمخشري: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك اه. واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى: وحشرناهم قبل ذلك؛ لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز، وعلى هذا حقيقة؛ لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نسير . وقال أبو حيان: الأولى جعلها حالا على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول، ثم قال: وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه. وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها [ ص: 289 ] التوافق والتخالف في الزمان، فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين؛ أي: وقد حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا أي: لم نترك، يقال: غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرئ: «يغادر» بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ قتادة: «تغادر» بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى: وألقت ما فيها وتخلت وجوز أبو حيان كونه للقدرة، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع «أحد» على النيابة عن الفاعل، وقرأ الضحاك: «نغدر» بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية