الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال : حدثني شيخ من بني أسد قال : حدثني رجل من قومي شهد عمر بن الخطاب أنه سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان : ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري . فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى، فقال كعب : ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد من طريق زاذان عن سلمان، أن عمر قال له : أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان : إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة . فاستعبر عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد عن سفيان بن أبي العرجاء قال : قال عمر بن الخطاب : والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ قال قائل : يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا . قال : ما هو؟ قال : الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق وأنت [ ص: 553 ] بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا ويعطي هذا فسكت عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد عن أبي موسى الأشعري قال : إن الإمرة ما ائتمر فيها وإن الملك ما غلب عليه بالسيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الثعلبي عن معاوية ، أنه كان يقول إذا جلس على المنبر : يا أيها الناس إن الخلافة ليست بجمع المال ولا بتفريقه، ولكن الخلافة العمل بالحق، والحكم بالعدل، وأخذ الناس بأمر الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي عن سالم مولى أبي جعفر قال : خرجنا مع أبي جعفر أمير المؤمنين إلى بيت المقدس، فلما دخل دمشق بعث إلى الأوزاعي فأتاه فقال : يا أمير المؤمنين حدثني حسان بن عطية عن جدك ابن عباس ما في قوله : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قال : إذا ارتفع إليك الخصمان، فكان لك في أحدهما هوى فلا تشته في نفسك الحق له فيفلج على صاحبه فأمحو اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا كرامة، يا أمير المؤمنين حدثنا [ ص: 554 ] حسان بن عطية عن جدك قال : من كره الحق فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق، يا أمير المؤمنين حدثني حسان بن عطية عن جدك في قوله : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة [الكهف : 49 ] قال : الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، فكيف بما جنته الأيدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : فاحكم بين الناس بالحق يعني : بالعدل والإنصاف، ولا تتبع الهوى يقول : ولا تؤثر هواك في قضائك بينهم على الحق والعدل فتجوز عن الحق فيضلك عن سبيل الله ، فيميل بك هواك في قضائك عن العدل والعمل بالحق عن طريق الله الذي جعله لأهل الإيمان به، فتكون من الهالكين بضلالك عن سبيل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب قال : هذا من التقديم والتأخير، يقول : لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في "الزهد" عن أبي السليل قال : كان داود يدخل المسجد، فينظر أغمض حلقة من بني إسرائيل فيجلس إليهم، ثم يقول : مسكين بين [ ص: 555 ] ظهراني مساكين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن زيد بن أسلم، أن ابنا لداود عليه السلام مات فاشتد عليه جزعه، فقيل له : ما كان يعدل عندك؟ قال : كان أحب إلي من ملء الأرض ذهبا، فقيل له : إن الأجر على قدر ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله في "زوائده" والحكيم الترمذي عن سعيد بن عبد العزيز قال : كان من دعاء داود عليه السلام، سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله عن الأوزاعي قال : أوحى الله إلى داود : ألا أعلمك عملين إذا عملت بهما ألقيت بهما وجوه الناس إليك وبلغت بهما رضاي؟ قال : بلى يا رب . قال احتجز فيما بيني وبينك بالورع، وخالط الناس بأخلاقهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 556 ] وأخرج أحمد عن يزيد بن أبي منصور قال : قال داود : ألا ذاكر لله فأذكر معه ألا مذكر فأذكر معه ولوددت أني إذا جزت قوما يذكرون الله فأنفذهم إلى غيرهم أن الرجل التي تليهم تنكسر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن عروة بن الزبير قال : كان داود عليه السلام يصنع القفة من الخوص وهو على المنبر، ثم يرسل بها إلى السوق فيبيعها ثم يأكل ثمنها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن سعيد بن أبي هلال قال : كان داود عليه السلام إذا قام من الليل يقول : اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت الحي القيوم، الذي لا تأخذك سنة ولا نوم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن عثمان الشحام أبي سلمة قال : حدثني شيخ من أهل البصرة كان له فضل وكان له سن، قال : بلغني أن داود سأل ربه قال : يا رب كيف لي أن أمشي لك في الأرض بنصح وأعمل لك فيها بنصح؟ قال : يا داود تحب من أحبني من أحمر وأبيض، ولا تزال شفتاك رطبتين من ذكري، واجتنب فراش المغيبة قال : أي رب، كيف لي أن تحببني في أهل الدنيا؛ البر والفاجر؟ قال : يا داود تصانع أهل الدنيا لدنياهم، وتحب أهل الآخرة لآخرتهم، وتختار إليك دينك بيني وبينك؛ فإنك إذا فعلت ذلك لا يضرك من [ ص: 557 ] ضل إذا اهتديت قال : رب فأرني أصفياءك من خلقك من هم؟ قال : نقي الكفين، نقي القلب يمشي تماما، ويقول صوابا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب في "تاريخه" عن يحيى بن أبي كثير قال : قال داود عليه السلام لابنه سليمان : يا بني، أتدري ما جهد البلاء؟ قال : لا قال : شراء الخبز من السوق، والانتقال من منزل إلى منزل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن مالك بن دينار قال : قال داود عليه السلام : اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي، وسمعي وبصري وأهلي، ومن الماء البارد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن وهب قال : قال داود : يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : مؤمن حسن الصورة . قال : فأي عبادك أبغض إليك؟ قال : كافر حسن الصورة؛ شكر هذا وكفر هذا . قال : يا رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال : عبد استخارني في أمر، فخرت له فلم يرض به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله في "زوائده" عن عبد الله بن أبي مليكة قال : قال داود : إلهي لا تجعل لي أهل سوء، فأكون رجل سوء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 558 ] وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن بوذويه قال : بلغني أنه كان من دعاء داود : اللهم لا تفقرني فأنسى ولا تغنني فأطغى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن الحسن قال : قال داود : إلهي أي رزق أطيب؟ قال : ثمرة يدك يا داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن أبي الجلد : إن الله تعالى أوحى إلى داود : يا داود أنذر عبادي الصديقين لا يعجبن بأنفسهم، ولا يتكلن على أعمالهم؛ فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي، إلا عذبته من غير أن أظلمه، وبشر الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن أبي الجلد، أن داود عليه السلام أمر مناديا فنادى : الصلاة جامعة . فخرج الناس وهم يرون أنه سيكون منه يومئذ موعظة وتأديب ودعاء، فلما وافى مكانه قال : اللهم اغفر لنا . وانصرف فاستقبل آخر الناس أوائلهم قالوا : ما لكم؟ قالوا : إن النبي إنما دعا بدعوة [ ص: 559 ] واحدة ثم انصرف قالوا : سبحان الله كنا نرجو أن يكون هذا اليوم يوم عبادة ودعاء وموعظة وتأديب فما دعا إلا بدعوة واحدة؟ فأوحى الله تعالى إليه : أن أبلغ قومك عني فإنهم قد استقلوا دعاءك، أني من أغفر له أصلح له أمر آخرته ودنياه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن عبد الرحمن بن أبزى قال : كان داود عليه السلام أصبر الناس وأحلمهم وأكظمهم للغيظ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن سعيد بن عبد العزيز قال : قال داود : يا رب كيف أسعى لك في الأرض بالنصيحة؟ قال : تكثر ذكري وتحب من أحبني من أبيض وأسود وتحكم للناس كما تحكم لنفسك وتجتنب فراش المغيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الله الجدلي قال : كان داود يقول : اللهم إني أعوذ بك من جار عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى خيرا دفنه وإن رأى شرا أشاعه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن أبي سعيد قال : كان من دعاء داود عليه [ ص: 560 ] السلام : اللهم إني أعوذ بك من جار السوء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن بريدة، أن داود عليه السلام كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من عمل يخزيني وهم يرديني وفقر ينسيني، وغنى يطغيني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن عبد الله بن الحارث قال : أوحى الله إلى داود : يا داود أحبني وأحب عبادي، وحببني إلى عبادي . قال : يا رب هذا أحبك وأحب عبادك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال تذكرني عندهم؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن الجعد قال : بلغنا أن داود عليه السلام قال : إلهي ما جزاء من عزى حزينا لا يريد به إلا وجهك؟ قال : جزاؤه أن ألبسه لباس التقوى . قال : إلهي ما جزاء من شيع جنازة لا يريد بها إلا وجهك؟ قال : جزاؤه أن تشيعه ملائكتي إذا مات، وأن أصلي على روحه في الأرواح . قال : إلهي ما جزاء من أسند يتيما أو أرملة لا يريد بها إلا وجهك؟ قال جزاؤه أن أظله في ظل [ ص: 561 ] عرشي يوم لا ظل إلا ظلي . قال : إلهي، ما جزاء من فاضت عيناه من خشيتك؟ قال : جزاؤه أن أؤمنه يوم الفزع الأكبر، وأن أقي وجهه فيح جهنم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن أبي الجلد قال : قرأت في مسألة داود أنه قال : إلهي، ما جزاء من يعزي الحزين المصاب ابتغاء مرضاتك؟ قال : جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الإيمان أستره به من النار، وأدخله الجنة . قال : إلهي، فما جزاء من شيع الجنازة ابتغاء مرضاتك؟ قال : جزاؤه أن تشيعه الملائكة يوم يموت إلى قبره، وأن أصلي على روحه في الأرواح . قال : إلهي، فما جزاء من يسند اليتيم والأرملة ابتغاء مرضاتك؟ قال : جزاؤه أن أظله في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي . قال : إلهي، فما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال : جزاؤه أن أحرم وجهه على نفح النار وأن أؤمنه يوم الفزع الأكبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن أبزى قال : قال داود لسليمان : كن لليتيم كالأب الرحيم واعلم أنك كما تزرع تحصد، واعلم أن [ ص: 562 ] خطيئة الأحمق في نادي القوم كالمغني عند رأس الميت، واعلم أن المرأة الصالحة لأهلها كالملك المتوج بالتاج المخوص بالذهب، واعلم أن المرأة السوء لأهلها كالشيخ الضعيف على ظهره الحمل الثقيل، وما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى، وإذا وعدت صاحبك فأنجز ما وعدته؛ فإنك إن لا تفعل تورث بينك وبينه عداوة، وتعوذ بالله من صاحب إذا ذكرت لم يعنك وإذا نسيت لم يذكرك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن الحسن قال : كان داود عليه السلام يقول : اللهم لا مرض يضنيني، ولا صحة تنسيني ولكن بين ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله عن زيد بن رفيع قال : نظر داود إلى منجل من نار يهوي بين السماء والأرض، فقال : يا رب ما هذا؟ قال : هذه لعنتي أدخلها بيت كل ظلام .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 563 ] وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن أبزى قال : قال داود : نعم العون اليسار على الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال : قال داود : يا رب، طال عمري، وكبر سني، وضعف ركني . فأوحى الله إليه : يا داود، طوبى لمن طال عمره وحسن عمله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن عامر قال : أعطي داود عليه السلام من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى أن كان الطير والوحش لتعكف حوله حتى تموت عطشا وجوعا، وأن الأنهار لتقف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية