الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب إيجاب الوضوء للصلاة والطواف ومس المصحف

                                                                                                                                            261 - ( عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول } . رواه الجماعة إلا البخاري ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه الطبراني أيضا . وفي الباب عن أسامة بن عمير والد أبي المليح وأبي هريرة وأنس وأبي بكر الصديق والزبير بن العوام وأبي سعيد الخدري وغيرهم . قال الحافظ : وقد أوضحت طرقه وألفاظه في الكلام على أوائل الترمذي . قوله : ( لا يقبل الله ) قد قدمنا الكلام عليه في باب الوضوء بالخارج من السبيل . قوله : ( ولا صدقة من غلول ) الغلول بضم الغين المعجمة : هو الخيانة ، وأصله السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة . قال النووي في شرح مسلم : وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة .

                                                                                                                                            قال القاضي عياض : واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة ، فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء كان في أول الإسلام سنة ، ثم نزل فرضه في آية التيمم . وقال الجمهور : بل كان قبل ذلك فرضا ، وقد استوفى الكلام على ذلك الحافظ في أول كتاب الوضوء في الفتح ، واختلفوا هل الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة ؟ ، فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض ، بدليل قوله تعالى: { إذا قمتم إلى الصلاة } الآية وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ . وقيل : الأمر به على الندب . وقيل : لا بل لم يشرع إلا لمن يحدث ، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب .

                                                                                                                                            قال النووي : حاكيا عن القاضي : وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ، ولم يبق بينهم خلاف ، ومعنى الآية عندهم : إذا قمتم محدثين ، وهكذا نسبه الحافظ في الفتح إلى الأكثر ، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث } .

                                                                                                                                            ولمسلم من حديث بريدة { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : إنك فعلت [ ص: 258 ] شيئا لم تكن تفعله ، فقال : عمدا فعلته } أي لبيان الجواز ، واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم { لا وضوء إلا من حدث } فالحق استحباب الوضوء عند القيام إلى الصلاة ، وما شكك به صاحب المنار في ذلك غير نير ، فإن الأحاديث مصرحة بوقوع الوضوء منه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة إلى وقت الترخيص ، وهو أعم من أن يكون لحدث ولغيره ، والآية دلت على هذا وليس فيها التقييد بحال الحدث ، وحديث { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ، ومع كل وضوء بسواك } عند أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا من أعظم الأدلة على المطلوب ، وسيذكر المصنف هذا الحديث في باب : فضل الوضوء لكل صلاة ، وقد أخرج الجماعة إلا مسلما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ عند كل صلاة } زاد الترمذي : ( طاهرا أو وغير طاهر ) وفي حديث عدم التوضؤ من لحوم الغنم دليل على تجديد الوضوء على الوضوء ; لأنه حكم صلى الله عليه وسلم بأن أكل لحومها غير ناقض ، ثم قال للسائل عن الوضوء : ( إن شئت ) . وقد وردت الأحاديث الصحيحة في فضل الوضوء كحديث { : ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء } أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر ، وحديث ( أنها تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ) عند مسلم ومالك والترمذي من حديث أبي هريرة . وحديث { من توضأ نحو وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة } أخرجه الشيخان من حديث عثمان ، وحديث { : إذا توضأت اغتسلت من خطاياك كيوم ولدتك أمك } عند مسلم والنسائي من حديث أبي أمامة ،

                                                                                                                                            وغير ذلك كثير ، فهل يجمل بطالب الحق الراغب في الأجر أن يدع هذه الأدلة التي لا تحتجب أنوارها على غير أكمه والمثوبات التي لا يرغب عنها إلا أبله ، ويتمسك بأذيال تشكيك منهار وشبهة مهدومة هي مخافة الوقوع بتجديد الوضوء لكل صلاة من غير حدث في الوعيد الذي ورد في حديث : { فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم } بعد أن تتكاثر الأدلة على أن الوضوء لكل صلاة عزيمة ، وأن الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات متعددة رخصة بل ذهب قوم إلى الوجوب عند القيام للصلاة كما أسلفنا ، دع عنك هذا كله .

                                                                                                                                            هذا ابن عمر يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات } أخرجه الترمذي وأبو داود ، فهل أنص على المطلوب من هذا ، وهل يبقى بعد هذا التصريح ارتياب ؟ . [ ص: 259 ]

                                                                                                                                            262 - ( وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه : لا يمس القرآن إلا طاهر } . رواه الأثرم والدارقطني ، وهو لمالك في الموطإ مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " . وقال الأثرم : واحتج أبو عبد الله - يعني أحمد - بحديث ابن عمر ، { ولا يمس المصحف إلا على طهارة ) } . الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الخلافيات ، والطبراني وفي إسناده سويد بن أبي حاتم وهو ضعيف . وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به ، وحسن الحازمي إسناده ، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام ، وحديث عمرو بن حزم جميعا ، وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني قال الحافظ : وإسناده لا بأس به ، لكن فيه سليمان الأشدق وهو مختلف فيه ، رواه عن سالم عن أبيه ابن عمر ، قال الحافظ : ذكر الأثرم أن أحمد احتج به .

                                                                                                                                            وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني ، وابن أبي داود في المصاحف ، وفي إسناده انقطاع .

                                                                                                                                            وفي رواية الطبراني من لا يعرف ، وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده ، وفي إسناده حصيب بن جحدر ، وهو متروك . وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنه رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون . قال الحافظ : وفي إسناده مقال ، وفيه عن سلمان موقوفا ، أخرجه الدارقطني والحاكم . وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول ، قال ابن عبد البر إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم . وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا ، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن ، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ، ومن ليس على بدنه نجاسة . ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى { إنما المشركون نجس } وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : ( المؤمن لا ينجس ) وعلى الثاني { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا ، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير ، فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه [ ص: 260 ] حمله عليها هنا .

                                                                                                                                            والمسألة مدونة في الأصول ، وفيها مذاهب . والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين ، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف ، وخالف في ذلك داود . استدل المانعون للجنب بقوله تعالى : { لا يمسه إلا المطهرون } وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن ، والظاهر رجوعه إلى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ; لأنه الأقرب ، والمطهرون الملائكة ، ولو سلم عدم الطهور فلا أقل من الاحتمال فيمتنع العمل بأحد الأمرين ، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية ، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب ، وهو منع الجنب من مسه غير مسلمة ; لأن المطهر من ليس بنجس ، والمؤمن ليس بنجس دائما لحديث : { المؤمن لا ينجس } وهو متفق عليه فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية ، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك كما في قوله تعالى: { إنما المشركون نجس } لهذا الحديث ، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر ، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه فلا يعين حتى يبين .

                                                                                                                                            وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث : { المؤمن لا ينجس } ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته ، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح ، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه ، وفي الخلاف ، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه ، لما صح لوجود المانع وهو حديث : ( المؤمن لا ينجس ) واستدلوا أيضا بحديث الباب . وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج ; لأنه من صحيفة غير مسموعة ، وفي رجال إسناده خلاف شديد ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر ، وقد عرفته . قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير : إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة ، صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه ، فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة ، فإن قلت : إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " ، و { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } إلى قوله { مسلمون } مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ، ووقوع اللمس منهم [ ص: 261 ] له معلوم .

                                                                                                                                            قلت : أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة ، كدعائه إلى الإسلام . ويمكن أن يجاب عن ذلك ، بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير فلا تخصص به الآية والحديث . إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك ، وقد عرفت الخلاف في الجنب . وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف .

                                                                                                                                            وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز ، واستدلوا بما سلف ، وقد سلف ما فيه

                                                                                                                                            263 - ( وعن طاوس عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما الطواف بالبيت صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام } . رواه أحمد والنسائي ) . الحديث أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس ، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان ، وقال الترمذي : روي مرفوعا وموقوفا ، ولا يعرف مرفوعا إلا من حديث عطاء ، ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس ، واختلف على عطاء في رفعه ووقفه ، ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وزاد أن رواية الرفع ضعيفة . قال الحافظ : وفي إطلاق ذلك نظر ، فإن عطاء بن السائب صدوق ، وإذا روي عنه الحديث مرفوعا تارة وموقوفا تارة ، فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع ، والنووي ممن يعتمد ذلك ، ويكثر منه ، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة . وقد أخرج الحديث الحاكم من رواية سفيان عن عطاء وهو ممن سمع منه قبل الاختلاط بالاتفاق ، ولكنه موقوف من طريقه . وقد أطال الكلام في التلخيص فليرجع إليه .

                                                                                                                                            والحديث يدل على أنه ينبغي أن يكون الطواف على طهارة كطهارة الصلاة ، وفيه خلاف محله كتاب الحج .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية