الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 276 ] باب اللعان قال ( إذا قذف الرجل امرأته بالزنا [ ص: 277 ] وهما من أهل الشهادة والمرأة ممن يحد قاذفها أو نفى نسب ولدها وطالبته بموجب القذف فعليه اللعان )

[ ص: 278 ] والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها لقوله تعالى { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } والاستثناء إنما يكون من الجنس ، وقال الله تعالى

[ ص: 279 ] { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } نص على الشهادة واليمين فقلنا الركن هو الشهادة المؤكدة باليمين ، ثم قرن الركن في جانبه باللعن لو كان كاذبا وهو قائم مقام حد القذف وفي جانبها بالغضب وهو قائم مقام حد الزنا ،

[ ص: 280 ] إذا ثبت هذا نقول لا بد أن يكونا من أهل الشهادة لأن الركن فيه الشهادة ولا بد أن تكون هي ممن يحد قاذفها لأنه قائم في حقه مقام حد القذف فلا بد من إحصانها ، ويجب بنفي الولد لأنه لما نفى ولدها صار قاذفا لها ظاهرا ولا يعتبر احتمال أن يكون الولد من غيره بالوطء من شبهة ، كما إذا نفى أجنبي نسبه عن أبيه المعروف ، وهذا لأن الأصل في النسب الفراش الصحيح والفاسد ملحق به . فنفيه عن الفراش الصحيح قذف حتى يظهر الملحق به

التالي السابق


( باب اللعان )

هو مصدر لاعن سماعي لا قياسي ، والقياس الملاعنة ، وكثير من النحاة يجعلون الفعال والمفاعلة مصدرين قياسيين لفاعل وهو من اللعن وهو الطرد والإبعاد ، يقال منه التعن : أي لعن نفسه ، ولاعن إذا فاعل غيره ، ومنه رجل لعنة بفتح العين إذا كان كثير اللعن لغيره ، وبسكونها إذا لعنه الناس كثيرا . قال :

والضيف أكرمه فإن مبيته حق ولا تك لعنة للنزل



وفي الفقه : هو اسم لما يجري بين الزوجين من الشهادات بالألفاظ المعروفة ، سمي ذلك به لوجود لفظ اللعن في الخامسة من تسمية الكل باسم الجزء ولم يسم باسم الغضب ، وهو أيضا موجود فيه لأنه في كلامها وذلك في كلامه وهو أسبق والسبق من أسباب الترجيح

وشرطه قيام النكاح وما سيذكر . وسببه قذفه زوجته بما يوجب الحد في الأجنبية . وركنه ذلك المفهوم . وحكمه حرمتها بعد التلاعن على ما سيأتي ، وأهله من كان أهلا للشهادة . ( قوله إذا قذف الرجل امرأته بالزنا ) بأن يقول أنت زانية أو رأيتك تزنين أو يا زانية ، هذا مذهب [ ص: 277 ] الجمهور ، وفي المشهور عن مالك : لا يجب بقوله يا زانية بل يجب فيه الحد ، وهو قول الليث وعثمان البتي ويحيى بن سعيد .

واستضعف بأن الكل رمى بالزنا وهو السبب فلا فرق ( قوله وهما من أهل الشهادة ) أي من أهل أدائها على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ، ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف . وأورد أنه يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أداء لهما .

ودفع بأنهما من أهله إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه ، وهنا هو يقدر على أن يفصل بين نفسه وامرأته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها . وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الأعمى لا يلاعن ( قوله ممن يحد قاذفها ) فلو كانت لا يحد قاذفها بأن تزوجت بنكاح فاسد ودخل بها فيه أو كان لها ولد وليس له أب معروف أو زنت في عمرها ولو مرة أو وطئت وطئا حراما بشبهة ولو مرة لا يجري اللعان . وأورد ما فائدة تخصيص المرأة بكونها ممن يحد قاذفها وهو شرط في جانب الرجل أيضا حتى لو كان الزوج ممن لا يحد قاذفه لا يجري اللعان أيضا وإن كانت هي ممن يحد قاذفها .

وأجاب في النهاية بأن اللعان في حقه قائم مقام حد القذف فلا بد من إحصانها حتى يقع مقام حد القذف ، وعند عدم إحصانها قذفها لا يكون موجبا شيئا لا حد القذف ولا اللعان ، أما قذف الرجل عند عدم إحصانه فموجب ما هو الأصل وهو حد القذف فلم يخل قذفه عند عدم إحصانه عن موجب فلذلك لم يشترط كونه ممن يحد قاذفه إذ الحد أصل اللعان فكان في معنى اللعان . قال في شرح الكنز : هذا خطأ فاحش لأن من شرط اللعان أن يكونا من أهل الشهادة لأنه شهادة ، وكونه ممن لا يحد قاذفه كالزاني لا يخل بهذا الشرط [ ص: 278 ] لأن اللعان يجري بين الفاسقين ، وإنما اشترط ذلك فيها لتثبت عفتها لأن حد القذف لا يجب إلا إذا كان المقذوف عفيفا عن الزنا ، فكذا اللعان لأنه قائم مقام حد قذفها ، وهذا لأن من شرط اللعان أن تطالب المرأة بموجب القذف وهو الحد ، وإذا لم تكن ممن يحد قاذفها ليس لها المطالبة بذلك فلا يتصور اللعان ولم يوجد في حقه هذا المعنى فلأي معنى يمتنع ا هـ .

الحاصل أن المرأة هي المقذوفة دونه فاختصت باشتراط كونها ممن يحد قاذفها بعد اشتراط أهلية الشهادة بخلافه ليس بمقذوف وهو شاهد فاشترطت أهلية الشهادة دون كونه ممن يحد قاذفه ( قوله والأصل ) أي إن الأصل في اشتراط أهلية الشهادة فيهما ، واشتراط كونها مع ذلك عفيفة ممن يحد قاذفها أن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان ، فلذلك اشترطنا أهلية الشهادة ، وأنه قام مقام حد القذف في حقه : أي قذفه لها فلذلك اشترطنا كونها ممن يحد قاذفها ومقام حد الزنا في حقها إن كان صادقا ( قوله عندنا ) قيد بهذا الظرف ليفيد الخلاف .

فعند الشافعي اللعان أيمان مؤكدات بالشهادات ، وهو الظاهر من قول مالك وأحمد ممن كان أهلا لليمين وهو من يملك الطلاق ، فكل من يملكه فهو أهل له عنده ، فيجب اللعان من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا ، وعن مالك وأحمد رواية كقولنا ، وجه قوله قوله تعالى { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } فقوله تعالى " بالله " محكم في اليمين والشهادة تحتمل اليمين ; ألا ترى أنه لو قال أشهد ينوي اليمين كان يمينا ، فحملنا المحتمل على المحكم ، لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المفهوم في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه ، وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإنه معهود في القسامة ، ولأن الشهادة محلها الإثباتات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر ، فليكن المجاز لفظ الشهادة لما قلنا من الموجبين المذكورين ، وهذا التقرير يقتضي في حل مذهبه أن يقال أيمان مؤكدة بأيمان لا أيمان مؤكدة بالشهادة .

ولنا الآية المذكورة والحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان قوله تعالى { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات ، وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى : ولم يكن [ ص: 279 ] لهم حالفون إلا أنفسهم ، وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه لما لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون هم لأنفسهم ، وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره وهو لا وجود له أصلا ، فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه فكيف وهو مجازي لها ، ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه ، وتكرر الأداء لا عهد بهما .

قلنا : وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به ، بل اليمين لدفع الحكم ، فإن جاز لمن له ولاية الإيجاد والإعدام والحكم كيفما أراد شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز له أيضا شرعية ذلك ابتداء ، ثم هما أقرب في القول لعقلية كون التعدد في ذلك المحل أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة لنفسه عند التهمة ولذا يثبت عند عدمها أعظم ثبوت .

قال الله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو } فغير بعيد أن يشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين ، إذ موجب شهادة كل واحد إقامة الحد على الآخر ، وليس ذلك بثابت هنا ، بل الثابت عندهما ما هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر ، وإنما قلنا عندهما ولم نقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما .

وأما قوله اليمين للنفي إلى آخره فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات ، وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة ، والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة ، إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر ، وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط أهلية الشهادة وعدمها ( قوله قائمة مقام حد القذف في حقه ) [ ص: 280 ] أي بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا : ألا يرى أنه لو قذف بكلمة أو بكلمات أربع زوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن ، بل لا بد من أن يلاعن كلا منهن على حدة ، ولو كن أجنبيات فقذفهن حد واحدا لهن .

وسبب هذا الافتراق أن المقصود يحصل في إقامة الحد الواحد للكل وهو دفع العار عنهن ، ولا يحصل ذلك في اللعان إلا بالنسبة إلى كل واحدة ، ويتعذر اجتماع الكل في كلمة ( قوله ويجب بنفي الولد ) هو أعم من كونه ولده منها أو ولدها من غيره ، ويجب إرادة هذا الإطلاق .

فقوله في الغاية أو نفى نسب ولدها المولود على فراشه لا يفيد ، لأنه لو نفى نسب ولدها من غيره عن أبيه المعروف يكون قذفا لها كما لو نفاه عنه أجنبي فيكون موجبه اللعان لما تلونا كذا في شرح الكنز ( قوله ولا يعتبر احتمال إلخ ) جواب عن مقدر تقديره إن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لجواز كون الولد من غيره بوطء بشبهة لا زنا .

أجاب بأنه احتمال لا يعتبر لأن النسب وإن كان مما يثبت من الوطء بشبهة لكن الواقع انتفاء ثبوته إلا من هذا الفراش القائم . فإذا نفاه عنه مع عدم ثبوته من غيره كان نفيا لثبوت نسبه مطلقا ويستلزم كونه عن زنا فكان قذفا ما لم يظهر خلافه ولم يظهر بعد ، وإنما بقي فيه احتمال كونه في نفس الأمر عن غير زنا ولا عبرة به .

فإن هذا الاحتمال قائم بعينه فيما إذا صرح بنسبة أمه إلى الزنا به ، ثم شبهه بما إذا نفى أجنبي نسبه عن أبيه المعروف : يعني فإنه يكون قذفا موجبا للحد وإن كان ذلك الاحتمال قائما فيه وهذا مصرح ، بخلاف ما في المحيط من أنه إذا نفى الولد فقال ليس بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لذلك الاحتمال .

وفي النهاية والدراية جعلا هذا قول الشافعي ، ثم قال : وأجمعوا أنه لو قال لأجنبية ليس هذا الولد الذي ولدتيه من زوجك لا يصير قاذفا ما لم يقل إنه من الزنا [ ص: 281 ] قال : والقياس ما قاله الشافعي إلا أنا تركناه لضرورة في اللعان لأن الزوج قد يعلم أن الولد ليس منه ، إما لأنه لم يقربها أو عزل عنها عزلا بينا ولا يدري من أين هو : يعني فيحتاج إلى نفيه لأنه لا يستلحق من ليس منه يقينا ولا يتمكن منه إلا باللعان ، وثبوته فرع اعتباره قاذفا فاعتبر كذلك لهذه الضرورة ، وهذه الضرورة منعدمة في حق غيره .

وجواب الفصلين يخالف جوابهما المصرح في الهداية ; والعجب من صاحب الدراية حيث قال في تقريره قوله في الكتاب : ولا يعتبر احتمال أن يكون الولد إلخ ، لأنه يصير قاذفا بالإجماع مع وجود هذا الاحتمال ، كما في نفي أجنبي نسبه عن أبيه المعروف ، ونقله من الإيضاح والمبسوط ، ثم نقل قول الشافعي كما في النهاية . ثم أورد صورة الأجنبية مقيسا له عليه . فقال : كما لو قال لأجنبية ليس هذا الولد من زوجك ولم يمنعه في جوابه بل ذكر في جوابه الفرق الذي ذكره في النهاية بين قوله لأجنبية وبين قوله لزوجته ، وهو تناقض ظاهر ومخالفا لما ذكره في الكتاب وغيره من المواضع كالإيضاح والمبسوط وغيرهما ، وما في كتاب الحدود فإنه قال : ومن نفى نسب غيره فقال لست لأبيك فإنه يحد ، قيل وذكر في جوامع الفقه وغيره : لو قال وجدت معها رجلا يجامعها ليس بقذف لها لأنه يحتمل الحل والجماع بشبهة والنكاح الفاسد فكان ينبغي أن يكون كذلك هنا : يعني في نفي نسب ولده من زوجته .

أجيب عنه بأنا جعلناه كالتصريح بالزنا للضرورة التي بيناها . قلت : وعلى ما هو الحق فالجواب أن الجماع لا يستلزم الزنا ، بخلاف قطع نسبه من كل وجه على ما قررناه فإنه يستلزمه




الخدمات العلمية