الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2194 - مسألة : هل يجلد المريض الحدود أم لا ؟ وإن جلدها كيف يجلدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : يعجل له ضرب الحد - كما أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن عمر بن الخطاب أتي برجل يشرب الخمر - وهو مريض - فقال : أقيموا عليه الحد ، فإني أخاف أن يموت [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فاحتمل هذا أن يكون إشفاق عمر - رضي الله عنه - من أن يموت قبل أن يضرب الحد فيكون معطلا للحد

                                                                                                                                                                                          واحتمل أيضا : من أن يكون يصيبه موت منه ، فنظرنا في ذلك ، فوجدنا محمد بن سعيد أيضا - قال : أنا عبد الله بن نصر أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن وضاح أنا موسى بن معاوية أنا وكيع أنا سفيان فذكر هذا الخبر ، وفيه : أن عمر قال : اضربوه لا يموت

                                                                                                                                                                                          فبين هذا أن إشفاق عمر كان من كلا الأمرين

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فإذا كان هذا ، فقد ثبت أنه أمر بأن يضرب ضربا لا يموت منه

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى وكيع أنا سفيان عن ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه : أنه كان يبر نذره بأدنى الضرب

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى وكيع أنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء : الضغث للناس عامة ، في قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث }

                                                                                                                                                                                          أنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود أنا أحمد بن دحيم أنا إبراهيم بن حماد أنا إسماعيل بن إسحاق أنا إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن غلام لهم يفهم قال : أخبرني ذلك الغلام أن عروة حلف ليضربني كذا وكذا ضربة ، فأخذ بيده شماريخ فضربني بها جميعا

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى إسماعيل نا محمد بن عبيد أنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة في قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } قال : عودا فيه تسعة وتسعون عودا ، والأصل تمام المائة ، فضرب به امرأته ، وكان حلف ليضربنها ، فكانت الضربة تحلة ليمينه ، وتخفيفا عن امرأته - وهو قول الشافعي

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يؤخر جلده حتى يبرأ - وهو قول مالك

                                                                                                                                                                                          وجاء عن مجاهد في الآية المذكورة : ما ناه يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود بالإسناد المذكور إلى إسماعيل بن إسحاق أنا علي بن عبد الله أنا سفيان عن ابن أبي نجيح [ ص: 88 ] عن مجاهد في قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } قال : هي لأيوب خاصة - وقال عطاء : هي للناس عامة

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله تعالى - فوجدنا الطائفة المانعة من إقامة الحد عليه - حتى يبرأ - يحتجون : بما ناه حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل أنا أبي أنا غندر أنا شعبة قال : سمعت عبد الأعلى التغلبي يحدث عن أبي جميلة عن علي بن أبي طالب { أن أمة زنت فحملت ، فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له : دعها حتى تلد - أو قال حتى تضع ثم اجلدها }

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أحمد بن حنبل أنا وكيع أنا سفيان عن عبد الأعلى التغلبي عن أبي جميلة الطهوي عن علي { أن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم أحدثت فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقيم عليها الحد فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته فقال : إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم }

                                                                                                                                                                                          قالوا : فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعجل جلد الخادم الحامل حتى تضع فتجلد الحد الذي أمر الله تعالى به - وكذلك التي لم تجف من دمها حتى يجف عنها دمها

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول الطائفة الثانية الموجبة تعجيل الحد على حسب ما يؤمن به الموت ، فوجدناهم يذكرون : ما ناه عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن يوسف النيسابوري ، ومحمد بن عبيد الله بن يزيد بن إبراهيم الحراني - واللفظ له - قال أحمد : أنا أحمد بن سليمان ، وقال محمد بن عبيد الله : حدثني أبي ثم اتفق أحمد بن سليمان ، وعبيد الله بن يزيد : قالا : أنا عبد الله بن عمرو - هو الرقي - عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال { : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد زنى ، فأمر به فجرد ، فإذا رجل مقعد ، حمش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبقي الضرب من هذا شيئا ، فدعا بأثاكيل فيها مائة شمروخ ، فضربه بها ضربة واحدة }

                                                                                                                                                                                          [ ص: 89 ] أنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا يزيد بن محمد العقيلي بمكة أنا عبد الرحمن بن حماد الثقفي أنا الأعمش عن الشعبي عن علقمة عن ابن عباس قال { : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة ضعيفة لا تقدر أن تمتنع ممن أرادها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ممن ؟ قالت : من فلان ، فذكرت رجلا ضعيفا أضعف منها ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجيء به فسأله عن ذلك ؟ فأقر مرارا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا أثاكيل مائة فاضربوه بها مرة واحدة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : حديث سهل بن سعد صالح تقوم به الحجة ، فإن قيل : إن هذا الخبر المعروف فيه إسرائيل : كما أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن وهب الحراني أنا محمد بن سلمة ني أبو عبد الرحيم - هو خال محمد بن سلمة - حدثني زيد - هو ابن أبي أنيسة - عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال { : جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية - وهي حبلى - فسألها ممن حملك ؟ فقالت : من فلان المقعد ، فجيء بفلان ، فإذا رجل حمش الجسد ضرير ، فقال : والله ما يبقي الضرب من هذا شيئا ، فأمر بأثاكيل مائة فجمعت ، فضرب بها ضربة واحدة } وهي : شماريخ النخل الذي يكون فيها العروق

                                                                                                                                                                                          وفي آثار كثيرة يطول ذكرها جدا ، فتركناها لذلك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما جاءت الآثار كما ذكرنا : وجب أن ننظر في ذلك ؟ فوجدنا حديث أبي جميلة عن علي صحيحا إلا أنه لا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه إنما فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الحد عن الحمل ، وعن التي لم تجف من دمها - وهذا ليس مما نحن فيه في شيء ، لأن الحامل ليست مريضة ، وإنما خيف على جنينها الذي لا يحل هلاكه ، وحكم الصحيح أن تجلد بلا رأفة ، وحكم الجنين أن لا يتوصل إلى إهلاكه : فوجب تأخير الجلد عنها جملة ، كما يؤخر الرجم أيضا من أجله

                                                                                                                                                                                          وأما التي لم تجف من دمها : فإن هذا كان إثر الولادة ، وفي حال سيلان الدم ، وهذا شغل شاغل لها ، ومثلها أن لا تجلد في تلك الحال ، كمن ذرعه القيء ، أو هو [ ص: 90 ] في حال الغائط ، أو البول ، ولا فرق ، وانقطاع ذلك الدم قريب ، إنما هي ساعة أو ساعتان - ولم يقل في الحديث إذا طهرت ، إنما قال : إذا جفت من دمها

                                                                                                                                                                                          فبطل أن يكون لهم في شيء من ذينك الحديثين متعلق أصلا

                                                                                                                                                                                          فإذ قد سقط أن يكون لتلك الطائفة متعلق ، فالواجب أن ننظر - بعون الله فيما قالت به الطائفة الأخرى : فنظرنا في الحديث الذي أوردنا من جلد المزمن المريض بشماريخ فيها مائة عثكول : فوجدنا الطريق الذي صدرنا به من طريق سهل بن سعد طريقا جيدا تقوم به الحجة ، ووجدناهم يحتجون بأمر أيوب صلى الله عليه وآله وسلم

                                                                                                                                                                                          وقال أبو محمد رحمه الله : أما نحن فلا نحتج بشريعة نبي غير نبينا صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }

                                                                                                                                                                                          ولما قد أحكمنا في كتابنا الموسوم ب " الإحكام لأصول الأحكام "

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وحتى لو لم يصح في هذا حد ، لكان قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } موجبا أن لا يجلد أحد إلا على حسب طاقته من الألم ، وكان نصا جليا في ذلك لا يجوز مخالفته أصلا .

                                                                                                                                                                                          وبضرورة العقل ندري أن ابن نيف وثلاثين قوي الجسم ، مصبر الخلق ، يحمل من الضرب من قوته ما لا يحمله الشيخ ابن ثمانين ، والغلام ابن خمسة عشر عاما ، - وأربعة عشر عاما - إذا بلغ - وأصاب حدا

                                                                                                                                                                                          وكذلك يؤلم الشيخ الكبير ، والغلام الصغير ، من الجلد ما لا يؤلم ابن الثلاثين الشاب القوي ، بل لا يكاد يحس إلا حسا لطيفا ما يؤلم ذينك الألم الشديد وأن الذي يؤلم الشاب القوي ، لو قوبل به الشيخ الهرم ، والصغير النحيف ، من الجلد لقتلهما ، هذا أمر لا يدفعه إلا مدافع للحس والمشاهدة

                                                                                                                                                                                          ووجدنا المريض يؤلمه أقل شيء مما لا يحسه الصحيح أصلا ، إلا كما يحس بثيابه التي ليس لحسه لها في الألم سبيل أصلا ، وعلى حسب شدة المرض يكون تألمه للكلام ، وللتلف ، وللمس اليد بلطف ، هذا ما لا شك فيه أصلا [ ص: 91 ]

                                                                                                                                                                                          ومن كابر هذا فإنما يكابر العيان ، والمشاهدة ، والحس

                                                                                                                                                                                          فوجدنا المريض إذا أصاب حدا من زنى ، أو قذف ، أو خمر ، لا بد فيه من أحد أمرين لا ثالث لهما : إما أن يعجل له الحد ، وإما أن يؤخر عنه ؟ فإن قالوا : يؤخر ؟ قلنا لهم : إلى متى ؟ فإن قالوا : إلى أن يصح ؟ قلنا لهم : ليس هذا أمد محدود ، وقد تتعجل الصحة ، وقد تبطئ عنه ، وقد لا يبرأ ، فهذا تعطيل للحدود ، وهذا لا يحل أصلا ، لأنه خلاف أمر الله تعالى في إقامة الحدود ، فلم يبق إلا تعجيل الحد كما قلنا نحن ، ويؤكد ذلك قول الله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }

                                                                                                                                                                                          فصح أن الواجب أن يجلد كل واحد على حسب وسعه الذي كلفه الله تعالى أن يصبر له ، فمن ضعف جدا جلد بشمراخ فيه مائة عثكول جلدة واحدة ، أو فيه ثمانون عثكالا كذلك - ويجلد في الخمر وإن اشتد ضعفه بطرف ثوب : على حسب طاقة كل أحد ولا مزيد - وبهذا نقول ونقطع : أنه الحق عند الله تعالى بيقين ، وما عداه فباطل عند الله تعالى - وبه التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية