الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 87 ] 228 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله عز وجل السموات والأرض .

1454 - حدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : أخبرني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : { خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فقال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاثة ولاء : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، والآخر رجب بين جمادى وشعبان } .

1455 - حدثنا عبيد بن رجال ، قال : أحمد بن صالح ، قال : قرأت [ ص: 88 ] على ابن نافع ، قال : أخبرني مالك ، عن ثور بن زيد الديلي ، قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ... ثم ذكر مثله ، ولم يذكر في إسناده بعد ثور بن زيد أحدا .

1456 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد ، عن أبي بكرة ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، سواء حرفا بحرف ، غير أنه قال : ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .

[ ص: 89 ]

[ ص: 90 ]

1457 - حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي ، قال : حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كانت العرب يجعلون عاما شهرا ، وعاما شهرين ، فلا يصيبون الحج في أيام الحج إلا في خمس وعشرين سنة مرة ، وهو النسيء الذي ذكر الله في كتابه ، فلما حج أبو بكر بالناس وافق ذلك العام الحج ، فسماه الله الحج الأكبر ، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض .

[ ص: 91 ] قال أبو جعفر : ففي حديث جعفر هذا الذي رده إلى عبد الله بن عمرو ، وما قد دل على استدارة الزمان حتى صار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وفيه المعنى المراد بقول الله عز وجل : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ، أن قوله جل وعز : الأكبر في هذه الآية إنما هو نعت للحج لا لما سواه مما قد اختلف الناس فيه ، فقال بعضهم : إنه يوم النحر ، وإن كان ذلك قد رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

1458 - كما قد حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا أبو الأشهب هوذة بن خليفة ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد - يعني : ابن سيرين - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : لما كان ذلك اليوم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، وفيها : { أي يوم يومكم هذا ؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال : أليس يوم الحج الأكبر } .

1459 - وكما قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا دحيم بن اليتيم ، قال : حدثنا عمر بن عبد الواحد ، عن هشام بن الغاز ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذ ، إن يوم الحج الأكبر يوم النحر .

[ ص: 92 ]

1460 - وكما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا الخطاب بن عثمان ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

وقال بعضهم : إن يوم الحج الأكبر يوم عرفة ، وليس في ذلك معهم رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما رووه عن ابن أبي أوفى ، ومعنى ما في [ ص: 93 ] حديثي رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذين ذكرناهما في هذا الباب هو ما في حديث عبد الله بن عمرو الذي رويناه فيه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : يوم الحج الأكبر نعت للحج لا لليوم حتى تصح معاني هذه الآثار وتتفق ، ولا يخالف بعضها بعضا .

فقال قائل : فقد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا ، فذكر

1461 - ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني ، قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : حدثني حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة ، قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأكبر الحج ، وإنما قيل : الحج الأكبر من قيل الناس : الحج الأصغر .

قال : ففي هذا الحديث ، أن يوم الحج الأكبر يوم النحر .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أن ما في هذا الحديث مما قد تحققنا أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مخالف [ ص: 94 ] لما قد رويناه قبله في هذا الباب ، إذ كان قوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحر قد يحتمل أن يكون قوله : الأكبر نعتا للحج لا لليوم ، ويكون ذلك موافقا لحديث عبد الله بن عمرو الذي رويناه في هذا الباب ، ويكون اليوم مضافا إليه حتى تصح هذه الآثار كلها ، لا يضاد شيء منها شيئا .

ثم قال هذا القائل : وفي هذا الحديث ، وإنما قيل : الحج الأكبر من أجل قول الناس : الحج الأصغر . فاستدل بذلك فيما ذكر على أنه إنما قيل للحج الذي كان عامئذ : الحج الأكبر القول الذي كان الناس يقولونه الحج الأصغر .

قال : وهذا خلاف ما في حديث عبد الله بن عمرو الذي رويتموه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أن الذي في هذا الحديث من قول الناس الحج الأصغر لا يدرى ما هو ؟ ولا عن من حكي من رواة هذا الحديث ؟ وقد يحتمل أن يكون من كلام الزهري ؛ فإنه قد كان يفعل ذلك كثيرا يخلط كلامه بالحديث ، فيتوهم أنه منه وليس هو منه ، ولذلك قال له موسى بن عقبة : افصل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامك ، وإذا كان ذلك الكلام يحتمل ما قد ذكرنا كان ما قد رويناه عن عبد الله بن عمرو من حقيقة المعنى ، كان في ذلك أولى منه ، وكان ما قال : من ذلك معقولا إذا كان الحج بعد استدارة الزمان رجع إلى شهر بعينه يجري عليه حج الناس إلى يوم القيامة ، فكان ذلك إماما [ ص: 95 ] لهم ؛ كان الأكبر من الحج الذي يرجع إليه غيره من الحج الذي يكون بعده إلى يوم القيامة من قدوة أهله لما فيه ، وفي ذلك ما قد وجب له ما قاله فيه عبد الله بن عمرو ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية