الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 147 ] النوع الثالث والثلاثون

في معرفة جدله

وقد أفرده من المتأخرين بالتصنيف ، العلامة نجم الدين الطوفي رضي الله عنه .

اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة ; وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به ، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين :

أحدهما : بسبب ما قاله : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ( إبراهيم : 4 ) الآية .

والثاني : أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام ; [ ص: 148 ] فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ، ولم يكن ملغزا ، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة ، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفى على ما أدركه فهم الخطاب .

وعلى هذا حمل الحديث المروي : إن لكل آية ظهرا وبطنا ، ولكل حرف حدا ومطلعا لا على ما ذهب إليه الباطنية ، ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر . ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل ، ومرة إلى السامعين ، ومرة إلى المفكرين ، ومرة إلى المتذكرين ، تنبيها أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقته منها ، وذلك نحو قوله : إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( الرعد : 4 ) ، وغيرها من الآيات .

واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين ; فمن ذلك الاستدلال على حدوث العالم بتغير الصفات عليه وانتقاله من حال إلى حال ، وهو آية الحدوث وقد ذكر الله تعالى في احتجاج إبراهيم الخليل عليه السلام استدلاله بحدوث [ ص: 149 ] الأفل على وجود المحدث والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات الثلاث وهو الحدوث ، طردا للدليل في كل ما هو مدلوله ، لتساويها في علة الحدوث وهي الجسمانية .

ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالم واحد ، بدلالة التمانع المشار إليه في قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) ; لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتسق على إحكام ، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما ; وذلك لو أراد أحدهما إحياء جسم ، وأراد الآخر إماتته ، فإما أن تنفذ إرادتهما ، فتتناقض لاستحالة أن يجري الفعل إن فرض الاتفاق ، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف ، وإما لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه ، والإله لا يكون عاجزا .

ومن ذلك الاستدلال على المعاد الجسماني بضروب .

أحدها : قياس الإعادة على الابتداء ، قال تعالى : كما بدأكم تعودون ( الأعراف : 29 ) ، كما بدأنا أول خلق نعيده ( الأنبياء : 104 ) ، أفعيينا بالخلق الأول ( ق : 15 ) .

ثانيها : قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى ، نحو : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ( يس : 81 ) ، لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( غافر : 57 ) .

ثالثها : قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات ، وهو في كل موضع ذكر فيه إنزال المطر غالبا ، نحو : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ( الروم : 19 ) .

رابعها : قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر ، وقد ورد : أن أبي بن [ ص: 150 ] خلف لما جاء بعظام بالية ففتها وذرها في الهواء ، وقال : يا محمد ، من يحيي العظام وهي رميم ؟ ! فأنزل الله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ( يس : 79 ) فعلم سبحانه كيفية الاستدلال برد النشأة الأخرى إلى الأولى ، والجمع بينهما بعلة الحدوث ، ثم زاد في الحجاج بقوله : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ( يس : 80 ) وهذا في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره ، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما .

خامسها : في قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ( النحل : 38 ، 39 ) وتقريرها كما قاله ابن السيد : إن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلاب الحق في نفسه ; وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه ، والحق في نفسه واحد ، فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة لا محالة ، وكان لا سبيل لنا في حياتنا هذه إلى الوقوف عليها وقوفا يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف إذ كان الاختلاف مركوزا في فطرنا ، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجبلة ، ونقلها إلى جبلة غيرها - صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة ، فيها يرتفع الخلاف والعناد ; وهذه هي الحال التي وعد الله بالمصير إليها ، فقال : ونزعنا ما في صدورهم من غل ( الحجر : 47 ) ولا بد من كون ذلك باضطرار ; إذ كان جواز الخلاف يقتضي الائتلاف ; لأنه نوع من المضاف ، وكان لا بد من حقيقته ، فقد صار الخلاف الموجود - كما ترى - أوضح دليل على كون البعث الذي ينكره المنكرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية