الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 63 ] ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

فمن الحوادث فيها :

أنه وصل الخبر بأن ملوك الإفرنج وهم ثلاثة أنفس وصلوا إلى بيت المقدس وصلوا صلاة الموت ، وانحدروا إلى عكة ، وفرقوا الأموال في العساكر فكان تقدير ما فرقوا سبعمائة ألف دينار وعزموا على قصد المسلمين ، فلما سمع المسلمون بقصدهم إياهم جمعوا الغلة والتبن ولم يتركوا في الرساتيق شيئا ، ولم يعلم أهل دمشق أن القصد لهم بل ظنوا أنهم يقصدون قلعتين كانتا بقرب دمشق ، فلما كان يوم السبت سادس ربيع الأول لم يشعروا بهم إلا وهم على باب دمشق ، وكانوا في أربعة آلاف لابس وستة آلاف فارس وستين ألف راجل ، فخرج إليهم المسلمون وقاتلوا ، فكانت الرجالة التي خرجت إليهم سوى الفرسان مائة وثلاثين ألفا فقتل من المسلمين نحو مائتين ، فلما كان في اليوم الثاني خرج الناس إليهم وقتل من المسلمين جماعة ، وقتل من الإفرنج ما لا يحصى ، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن زنكي في عشرين ألف فارس لنصرة صاحب دمشق ووصل أولاد غازي إلى بالس في ثلاثين ألفا فقتلوا من القوم [ما لا يحد ] وكان البكاء والعويل في البلد وفرش الرماد أياما وأخرج مصحف عثمان إلى وسط الجامع واجتمع عليه الرجال والنساء والأطفال وكشفوا رءوسهم ودعوا فاستجاب الله منهم فرحل أولئك ، وكان معهم قسيس طويل بلحية بيضاء فركب حمارا أحمر وترك في [ ص: 64 ] حلقه صليبا وفي حلق حماره صليبا ، وأخذ في يده صليبين ، وقال للإفرنج : إني قد وعدني المسيح أن آخذ دمشق ولا يردني أحد فاجتمعوا حوله وأقبل يطلب دمشق ، فلما رآه المسلمون غاروا للإسلام وحملوا عليه بأجمعهم فقتلوه وقتلوا الحمار ، وأخذوا الصلبان فأحرقوها .

ووصلت الأخبار من معسكر السلطان أن الأمراء قد تغيرت على السلطان مسعود بسبب خاصة خاص بك ومعهم محمد شاه بن محمود ، فوصل الخبر في نصف ربيع الأول بوصولهم إلى شهرابان وانهزم الناس ، ونقل أهل بغداد رحالهم وهرب شحنة مسعود إلى قلعة تكريت ، وقطع الجسر ، وكان قد تولى عمل الجسر الغزنوي الواعظ وعمل له درابزينات من الجانبين ووسعه ، وبعث الخليفة بابن العبادي الواعظ رسولا إلى العسكر فقال لهم : أمير المؤمنين يقول لكم في أي شيء جئتم ؟ وما مقصودكم ؟ فإن الناس قد انزعجوا بسبب مجيئكم ، فقالوا : نحن عبيد هذه العتبة الشريفة وعبيد السلطان ومماليكه وما فارقنا السلطان إلا خوفا من ابن البلنكري فإنه قد أفنى الأمراء ، فقتل عبد الرحمن بن طويرك وعباسا وبزبه وتتر وصلاح الدين وما عن النفس عوض إما نحن وإما هو وما نحن خوارج ولا عصاة وجئنا لنصلح أمرنا مع السلطان .

وهم ألبقش ، وألدكز ، وقيمز ، وقرقوت ، وأخو طويرك ، والطرنطاي ، وعلي بن دبيس ، وابن تتر في آخرين فدخلوا بغداد في ربيع الأول ثم انبسطوا فمدوا أيديهم إلى ما يختص بالسلطان وكبسوا خانات باب الأزج وأخذوا الغلة منها ، فثار عليهم أهل باب الأزج ، فقاتلوهم فبعث الخليفة إلى مسعود يقول له : أما الشحنة الذي من قبلك فقد هرب هو وأمير الحاج إلى تكريت وقد أحاط العسكر بالبلد وما يمكنني أن آخذ عسكرا لأجل العهد الذي بيننا فدبر الآن فقد بلغ السيل الزبا . .

فكتب إليه قد برئت ذمة أمير المؤمنين من العهد الذي بيننا وقد أذنت لك أن تجند [ ص: 65 ] عسكرا وتحتاط لنفسك وللمسلمين ، فجند وأظهر السرادقات والخيم وحفر الخنادق وسد العقود والعسكر ينهبون حوالي البلد ويأخذون غلات الناس وقسطوا على محال الجانب الغربي الأموال وخرجوا إلى الدجيل وأخذوا نساء الناس وبناتهم وجاءوا بهن إلى الخيم وجاءت زواريق فيها غلة فلما بلغت تحت التاج تقدم أمير المؤمنين بأخذها فمنعهم الأتراك الذين يحفظونها فوقع القتال واتصلت الحرب وكان القتال تحت مدرسة موفق وخرج صبيان بغداد يقاتلون بالميازر الصوف والمقاليع وقتل جماعة من الفريقين فبعث إليهم الغزنوي الواعظ فقبح ما فعلوا ، وقال : لو جاء الإفرنج لم يفعلوا هذا أي ذنب لأهل القرى والرساتيق ؟ واستنقذ منهم المواشي وساقها إلى البلد فجاء الناس فمن عرف شيئا أخذه .

وفي ثالث جمادى الأولى : قبض الخليفة على وزيره ابن صدقة ورتب نقيب النقباء نائبا ثم أطلق الوزير أبو القاسم إلى داره وقبض على الوزير أبي نصر بن جهير من الدار التي سكنها بباب الأزج وأحضر إلى دار أستاذ الدار ماشيا .

وفي ثامن عشرين جمادى الأولى : جلس المقتفي في منظرة الحلبة واستعرض العسكر وحفرت الخنادق ببغداد ونودي بلبس العوام السلاح وأن يمنعوا عن أنفسهم وأموالهم وكان البقش نازلا في دار تتر فلما مضى إليه الغزنوي رسولا رحل إلى ظاهر البلد تطييبا لقلب الخليفة وانقطعت الحرب ، فلما كانت عشية الثلاثاء سادس جمادى الآخرة بعث الخليفة ليلا فغلق الباب الحديد من عقد السور مما يلي جامع السلطان وبنوا خلفه وسدوه سدا قاطعا وكان لألبقش في سوق السلطان مخزن فيه طعام ورحل فنهبه العوام فأصبح العسكر فرأوا باب السور مسدودا فركب منهم نحو ألف فارس وجاءوا إلى السور مما يلي باب الجعفرية ففتحوا فيه فتحات وصعدوا وبعثوا رجالا فنقضوا البناء الذي خلف العقد وكسروا الباب الجديد وأخذوا منه قطعا وبعث البقش رسولا إلى الخليفة : لأي شيء سددتهم في وجوهنا وقد كنا نسترفق من سوق السلطان ، فلم يلتفت إلى قوله وخرج قوم من العوام فقاتلوا باب الأجمة فاستجرهم العسكر فانهزموا بين يديه [ ص: 66 ] فأخذ بهم فركبوا السور ونزلوا يطلبون الخيم وهناك كمين قد تكمن لهم فخرج عليهم فانهزموا فضربوهم بالسيوف فقتلوا منهم نحوا من خمسمائة ولم يتجاسر أحد يخرج إلى القتلى فنادوهم تعالوا خذوا قتلاكم .

فلما جاءت عشية ذلك اليوم جاء الأمراء فرموا أنفسهم تحت الرقة بإزاء التاج وقالوا ما كان هذا بعلمنا وإنما فعله أوباش لم نأمرهم به فعبر إليهم خادم وقبح فعلهم وقال : إنما كان الذين قتلتم نظارة ، فاعتذروا فلم يقبل عذرهم فأقاموا إلى الليل وقالوا : نحن قيام على رءوسنا ما نبرح ، أو يأذن لنا أمير المؤمنين ويعفو عن جرمنا ، فعبر إليهم الخادم وقال : أمير المؤمنين يقول أنا قد عفوت عنكم فامضوا واستحلوا من أهل القتلى ثم تقدم بإصلاح ثلم السور وخرج العوام بالدبادب والبوقات وجاء أهل المحال فعمر وحفر خندقه واختلف العسكر واجتمع البقش وابن دبيس والطرنطاي فساروا يطلبون الحلة وأخذ الدكز الملك وطلب بلاده وسكن الناس .

وفي رجب وقع الغلاء والقحط ودخل أهل القرى والرساتيق إلى بغداد لكونهم نهبوا فهلكوا عريا وجوعا .

وتوفي قاضي القضاة الزينبي ، وتقلد القضاء أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن محمد الدامغاني ، وخرج له التوقيع بالتقليد ، وخلع عليه فركب إلى جامع القصر فجلس فيه وقرأ ابن عبد العزيز الهاشمي عهده على كرسي نصب له .

التالي السابق


الخدمات العلمية