الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2202 - مسألة : من صار مختارا إلى أرض الحرب ، مشاقا للمسلمين أمرتد هو بذلك أم لا ؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإسلام - وإن لم يفارق دار الإسلام - أمرتد هو بذلك أم لا ؟ قال أبو محمد : أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : كان جرير يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 124 ] { إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ، وإن مات مات كافرا ، فأبق غلام لجرير ، فأخذه فضرب عنقه } .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا علي بن حجر السعدي أنا إسماعيل - يعني ابن علية - عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول : أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم - قال منصور : قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن إسحاق أنا ابن الأعرابي أنا أبو داود أنا هناد بن السري أنا أبو معاوية - هو ابن أبي خازم الضرير - عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لا تتراءى نارهما } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : حديث الشعبي عن جرير الذي قدمنا هو من طريق منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي موقوف على جرير ، فلا وجه للاشتغال به .

                                                                                                                                                                                          وهو من طريق مغيرة عن الشعبي مسند ، إلا أن فيه : إن العبد بإقامته يكون كافرا ، فظاهره في المملوك ، لأن الحر لا يوصف بإباق - في المعهود - لكن رواية أبي إسحاق عن الشعبي في هذا الخبر بيان أنه في الحر والمملوك ، وبيان الإباق الذي يكفر به ، وهو إباقه إلى أرض الشرك ، والبعد واقع على كل أحد ، لأن كل أحد عبد الله تعالى : كما روينا من طريق مسلم أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا سفيان بن عيينة [ ص: 125 ] عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي } .

                                                                                                                                                                                          فقوله تعالى ( إذا قال العبد ) عني به الحر والمملوك - بلا شك - .

                                                                                                                                                                                          والإباق مطلق على الحر أيضا قال الله تعالى { إذ أبق إلى الفلك المشحون } فأخبر تعالى عن رسوله الحر يونس بن متى صلى الله عليه وسلم أنه أبق إذ خرج مغاضبا لأمر ربه تعالى .

                                                                                                                                                                                          وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله تعالى ، وعن إمام المسلمين وجماعتهم ، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم { أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين } وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر ، قال الله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين ، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها : من وجوب القتل عليه ، متى قدر عليه ، ومن إباحة ماله ، وانفساخ نكاحه ، وغير ذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعانهم عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره ، فهذا لا شيء عليه ، لأنه مضطر مكره .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب : كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم ، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور .

                                                                                                                                                                                          وكذلك : من سكن بأرض الهند ، والسند ، والصين ، والترك ، والسودان والروم ، من المسلمين ، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر ، أو لقلة مال ، أو لضعف جسم ، أو لامتناع طريق ، فهو معذور . [ ص: 126 ]

                                                                                                                                                                                          فإن كان هناك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة ، أو كتابة : فهو كافر - وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها ، وهو كالذمي لهم ، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم ، فما يبعد عن الكفر ، وما نرى له عذرا - ونسأل الله العافية .

                                                                                                                                                                                          وليس كذلك : من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ; ومن جرى مجراهم ، لأن أرض مصر والقيروان ، وغيرهما ، فالإسلام هو الظاهر ، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام ، بل إلى الإسلام ينتمون ، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا .

                                                                                                                                                                                          وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك ، لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام - ونعوذ بالله من ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر ، فهو ليس بكافر ، لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال ، من التوحيد ، والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة ، وصيام رمضان ، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين } يبين ما قلناه ، وأنه عليه السلام إنما عنى بذلك دار الحرب ، وإلا فقد استعمل - عليه السلام - عماله على خيبر ، وهم كلهم يهود .

                                                                                                                                                                                          وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم - لإمارة عليهم ، أو لتجارة - بينهم : كافرا ، ولا مسيئا ، بل هو مسلم حسن ، ودارهم دار إسلام ، لا دار شرك ، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها ، والحاكم فيها ، والمالك لها .

                                                                                                                                                                                          ولو أن كافرا مجاهدا غلب على دار من دور الإسلام ، وأقر المسلمين بها على حالهم ، إلا أنه هو المالك لها ، المنفرد بنفسه في ضبطها ، وهو معلن بدين غير الإسلام لكفر بالبقاء معه كل من عاونه ، وأقام معه - وإن ادعى أنه مسلم - لما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين [ ص: 127 ] الحربيين ، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين ، أو على أخذ أموالهم ، أو سبيهم ، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع ، فهو هالك في غاية الفسوق ، ولا يكون بذلك كافرا ، لأنه لم يأت شيئا أوجب به عليه كفرا : قرآن أو إجماع ، وإن كان حكم الكفار جاريا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا ، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرا - والله أعلم - وإنما الكافر الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المقيم بين أظهر المشركين - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية