الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم استأنف ذلك التعريف؛ فقال - كما حكى الله (تعالى) عنه -: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى وقد ذكر موسى الكليم من قدرة الله (تعالى) ما يتصل بفرعون؛ وأرض مصر؛ فأرض مصر منبسط؛ هو واد بين جبلين؛ وعيشها ميسور؛ سهل؛ وهي أرض زراعية؛ يجري نيلها مبسوطا في ديارها؛ من جنوبها إلى شمالها؛ ممهدة؛ ليست وعرة؛ فقال - بوحي من ربه -: الذي جعل لكم الأرض مهدا أي: ممهدة لينة سهلة؛ ليست وعرة متعثرة بالأحجار؛ فهي لأهلها الذين يعيشون فكهين في نعيمها؛ كما يعيش الطفل في مهده؛ وهذا كناية عن الراحة والاستقرار؛ ثم بين - سبحانه - تسهيل الانتقال فيها من مكان إلى مكان؛ في عيشة راضية؛ وسلك لكم فيها سبلا والمعنى: خطها خطوطا؛ وأنشأ فيها سبلا؛ أي: طرقا مختلفة مسلوكة؛ ونظير هذا قوله (تعالى): الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ؛ وقوله (تعالى): والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا ؛ وإن مصر كذلك مبسوطة الأرض؛ فيها الطرق والوديان؛ حتى الصحراء نجد فيها وسط كثبان الرمال المسالك الصحراوية؛ والواحات التي تعد كالجنات في وسط الصحاري المجدبة؛ وأنـزل من السماء ماء أي: أنزل من السحاب الذي يتكاثف ليعتريه البرد؛ فينزل ماء مدرارا؛ كما قال (تعالى): ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار

                                                          وماء النيل ينزل من السماء مطرا مدرارا؛ ثم يتجمع فيجري من جبال الحبشة؛ حتى يصل إلى مصر؛ لا يعوقها عنها عائق.

                                                          وقوله: وأنـزل من السماء ماء هو من حديث موسى عن ربه قطعا؛ معرفا له لمن لا يعرفه؛ وإن كانت فطرته تناديه معرفة؛ ولكنه يتجاهلها؛ ويصم أذنيه عن [ ص: 4737 ] صوتها؛ ثم قال الله (تعالى): فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى انتقال من الغيبة إلى المتكلم؛ ويحتمل أن يكون ضمير المتكلم لموسى؛ وهو بعيد; لأنه ضمير جماعة؛ وليس ضمير مفرد؛ ويحتمل أن يكون لله (تعالى)؛ وهو الواضح; لأن الله (تعالى) هو الذي يخرج النبات؛ وإن كان الزارع هو الذي يحرث؛ ويلقي البذور بعد الحرث؛ ويرجو الثمار من الرب؛ وكان الالتفات إلى المتكلم؛ لأنه تحول القول من موسى إلى ربه؛ الذي يتحدث عنه؛ والفعل ثابت له؛ فهو يخرج الحب والنوى؛ وهو الذي أخرج كل شيء؛ وقوله (تعالى): فأخرجنا به أي بالماء فهو الذي أمدها بالحياة؛ كما قال (تعالى): وجعلنا من الماء كل شيء حي ؛ وقوله (تعالى): "أزواجا "؛ يقول المفسرون: أي: أصنافا؛ وأرى أن أزواجا ليست من الازدواج بمعنى الأصناف؛ بل من الزوجية؛ أي أنه من كل نبات زوجان؛ كما أن في الحيوان من كل زوجين؛ ففي النبات زوجان؛ ذكر وأنثى؛ يجري التلاقح بينهما؛ وإن كان ربما لا نراه؛ ولكن يجري بمقدار.

                                                          من نبات شتى أي: مختلف؛ متنوع فهذا حب متراكب؛ وهذا في سنابل؛ وهذا للإنسان؛ وذاك للحيوان؛ وهذا نخيل باسق؛ وهذا كروم؛ وهذه فاكهة ورمان؛ و "شتى "؛ جمع "شتيت "؛ كـ "مرضى "؛ جمع "مريض "؛ وهو - على ما قلنا - صفة للنبات.

                                                          بعد أن ذكر - سبحانه - أنه الذي أخرج كل شيء من الزرع في بلد الزرع؛ وأنه هو الذي أنزل الماء من السماء في بلد النيل؛ بعد ذلك ذكر نعمته المباشرة في هذا؛ فقال - عز من قائل -:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية