الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذوات الأرواح قلت للشافعي رحمه الله تعالى : أفرأيت ما ظفر المسلمون به من ذوات الأرواح من أموال المشركين من الخيل والنحل وغيرها من الماشية فقدروا على إتلافه قبل أن يغنموه أو غنموه فأدركهم العدو فخافوا أن يستنقذوه منهم ويقووا به على المسلمين أيجوز لهم إتلافه بذبح أو عقر أو تحريق أو تغريق في شيء من الأحوال ؟ ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى لا يحل عندي أن يقصد قصده بشيء يتلفه إذا كان لا [ ص: 274 ] راكب عليه فقلت للشافعي ولم قلت وإنما هو مال من أموالهم لا يقصد قصده بالتلف ؟ ( قال الشافعي ) : لفراقه ما سواه من المال لأنه ذو روح يألم بالعذاب ولا ذنب له وليس كما لا روح له يألم بالعذاب من أموالهم وقد نهي عن ذوات الأرواح أن يقتل ما قدر عليه منها إلا بالذبح لتؤكل وما امتنع بما نيل من السلاح لتؤكل وما كان منها عداء وضارا للضرورة قلت للشافعي : اذكر ما وصفت فقال : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن صهيب مولى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها } ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى فلما كان قتل ذوات الأرواح من البهائم محظورا إلا بما وصفت كان عقر الخيل والدواب التي لا ركبان عليها من المشركين داخلا في معنى الحظر خارجا من معنى المباح فلم يجز عندي أن تعقر ذوات الأرواح إلا على ما وصفت فإن قال قائل : ففي ذلك غيظ المشركين وقطع لبعض قوتهم قيل له : إنما ينال من غيظ المشركين بما كان غير ممنوع من أن ينال فأما الممنوع فلا يغاظ أحد بأن يأتي الغائظ له ما نهي عن إتيانه ألا ترى أنا لو سبينا نساءهم وولدانهم فأدركونا فلم نشك في استنفاذهم إياهم منا لم يجز لنا قتلهم وقتلهم أغيظ لهم وأنكى من قتل دوابهم فإن قال قائل : فقد روي أن جعفر بن أبي طالب عقر عند الحرب ؟ فلا أحفظ ذلك من وجه يثبت على الانفراد ولا أعلمه مشهورا عند عوام أهل العلم بالمغازي قيل للشافعي رحمه الله تعالى : أفرأيت الفارس من المشركين أللمسلم أن يعقره ؟ قال : نعم إن شاء الله تعالى لأن هذه منزلة يجد السبيل بها إلى قتل من أمر بقتله فإن قال قائل : فاذكر ما يشبه هذا قيل يكون له أن يرمي المشرك بالنبل والنار والمنجنيق فإذا صار أسيرا في يديه لم يكن له أن يفعل ذلك به وكان له قتله بالسيف وكذلك له أن يرمي الصيد فيقتله فإذا صار في يديه لم يقتله إلا بالذكاء التي هي أخف عليه وقد أبيح له دم المشرك بالمنجنيق وإن أصاب ذلك بعض من معهم ممن هو محظور الدم للمرء في دفعه عن نفسه عدوه أكثر من هذا فإن قال : فهل في هذا خبر ؟ قيل : نعم عقر حنظلة بن الراهب بأبي سفيان بن حرب يوم أحد فرسه فانعكست به وصرع عنها فجلس حنظلة على صدره وعطف ابن شعوب على حنظلة فقتله وذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه ولا نهاه ولا نهى غيره عن مثل هذا ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى ولكنه إذا صار إلى أن يفارقه فارسه لم يكن له عقره في تلك الحال والله تعالى أعلم وكذلك لو كانت عليه امرأة أو صبي لا يقاتل لم يعقر إنما يعقر لمعنى أن يوصل إلى فارسه ليقتل أو ليؤسر قيل للشافعي : فهل سمعت في هذا حديثا عمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إنما الغاية أن يوجد على شيء دلالة من كتاب أو سنة وقد وصفت لك بعض ما حضرني من ذلك فلا يزيده شيء وافقه قوة ولا يوهنه شيء خالفه وقد بلغنا عن أبي أمامة الباهلي أنه أوصى ابنه لا يعقر جسدا وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عن عقر الدابة إذا هي قامت وعن قبيصة أن فرسا قام عليه بأرض الروم فتركه ونهى عن عقره ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى وأخبرنا من سمع هشام بن الغازي يروي عن مكحول أنه سأله عنه فنهاه وقال { : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة } قيل للشافعي : أفرأيت ما أدرك معهم من أموال المشركين من ذوات الأرواح ؟ قال : لا تعقروا منه شيئا إلا أن تذبحوه لتأكلوا كما وصفت بدلالة السنة وأما ما فارق ذوات الأرواح فيصنعون فيما خافوا أن يستنقذ من أيديهم فيه ما شاءوا من تحريق وكسر وتغريق وغيره قلت : أو يدعون أولادهم ونساءهم ودوابهم ؟ فقال : نعم إذا لم يقدروا على استنقاذهم منهم فقلت للشافعي : أفرأيت إن كان السبي والمتاع قسم ؟ قال : كل رجل صار له من ذلك شيء فهو مسلط على ماله [ ص: 275 ] ويدع ذوات الأرواح إن لم يقو على سوقها وعلى منعها ويصنع في غير ذوات الأرواح ما شاء فقلت للشافعي : أفرأيت الإمام إذا أحرز ما يحمل من المتاع فحرقه في بلاد الشرك وهو يقاتل أو حرقه عند إدراك المشركين له وخوفه أن يستنقذوه قبل أن يقسم وبعدما قسم ؟ فقال : كل ذلك في الحكم سواء إن أحرقه بإذن من معه حل له ولم يضمن لهم سواه ويعزل الخمس لأهله فإن سلم به دفعه إليهم خاصة وإن لم يسلم به لم يكن عليه شيء ومتى حرقه بغير إذنهم ضمنه لهم إن شاءوا وكذلك رجل من المسلمين إن حرقه يضمن ما حرق منه إن حرقه بعد أن يحوزه المسلمون فأما إذا أحرقه قبل أن يحرز فلا ضمان عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية