الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون .

                                                                                                                                                                                                                                      الله يستهزئ بهم : أي يجازيهم على استهزائهم؛ سمي جزاؤه باسمه؛ كما سمي جزاء السيئة سيئة؛ إما للمشاكلة في اللفظ؛ أو المقارنة في الوجود؛ أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم؛ فيكون كالمستهزئ بهم؛ أو ينزل بهم الحقارة؛ والهوان الذي هو لازم الاستهزاء؛ أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم؛ أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم؛ واستدراجهم بالإمهال؛ والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان؛ وأما في الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم باب إلى الجنة فيسرعون نحوه؛ فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب؛ وذلك قوله (تعالى): فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ؛ وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين إلى غاية؛ ظهرت شناعته عند السامعين؛ وتعاظم ذلك عليهم حتى اضطرهم إلى أن يقولوا: ما مصير أمر هؤلاء؟ وما عاقبة حالهم؟ وفيه أنه (تعالى) هو الذي يتولى أمرهم؛ ولا يحوجهم إلى المعارضة بالمثل؛ ويستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ؛ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء؛ حيث ينزل بهم من النكال؛ ويحل عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف؛ وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار؛ كما يعرب عنه قوله - عز قائلا -: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ؛ وما كانوا خالين في أكثر الأوقات من تهتك أستار؛ وتكشف أسرار؛ ونزول في شأنهم؛ واستشعار حذر من ذلك؛ كما أنبأ عنه قوله - عز وجل -: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون .

                                                                                                                                                                                                                                      ويمدهم : أي: يزيدهم ويقويهم؛ من "مد الجيش"؛ و"أمده"؛ إذا زاده وقواه؛ ومنه: مددت الدواة؛ والسراج؛ إذا أصلحتهما بالحبر؛ والزيت؛ وإيثاره على "يزيدهم" للرمز إلى أن ذلك منوط بسوء اختيارهم؛ لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد؛ وما يجري مجراه من الحاجة الداعية إليه؛ كما في الأمثلة المذكورة؛ وقرئ: "يمدهم" من "الإمداد"؛ وهو صريح في أن القراءة المشهورة ليست من المد في العمر؛ على أنه يستعمل باللام كـ "الإملاء"؛ قال (تعالى): ونمد له من العذاب مدا ؛ وحذف الجار؛ وإيصال الفعل إلى الضمير - خلاف الأصل - لا يصار إليه إلا بدليل.

                                                                                                                                                                                                                                      في طغيانهم : متعلق بـ "يمدهم"؛ والطغيان: مجاوزة الحد في كل أمر؛ والمراد إفراطهم في العتو؛ وغلوهم في الكفر؛ وقرئ بكسر الطاء؛ وهي لغة فيه؛ كـ "لقيان"؛ لغة في "لقيان"؛ وفي إضافته إليهم إيذان باختصاصه بهم؛ وتأييد لما أشير إليه من ترتب المد على سوء اختيارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      يعمهون : حال من الضمير المنصوب؛ أو المجرور؛ لكون المضاف مصدرا؛ فهو مرفوع حكما؛ والعمه في البصيرة كالعمى في البصر؛ وهو التحير؛ والتردد؛ بحيث لا يدري أين يتوجه؛ وإسناد هذا المد إلى الله (تعالى) - مع إسناده في قوله (تعالى): وإخوانهم يمدونهم في الغي - محقق لقاعدة أهل الحق من أن جميع الأشياء مستند - من حيث الخلق - إليه - سبحانه -؛ وإن كانت أفعال العباد - من حيث الكسب - مستندة إليهم؛ والمعتزلة - لما تعذر عليهم إجراء النظم الكريم على [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                                                                                      مسلكه - نكبوا إلى شعاب التأويل؛ فأجابوا أولا بأنهم لما أصروا على كفرهم خذلهم الله (تعالى)؛ ومنعهم ألطافه؛ فتزايد الرين في قلوبهم؛ فسمي ذلك مددا في الطغيان؛ فأسند إيلاؤه إليه (تعالى)؛ ففي السند مجاز لغوي؛ وفي الإسناد مجاز عقلي؛ لأنه إسناد للفعل إلى المسبب له؛ وفاعله الحقيقي هم الكفرة؛ وثانيا بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلحاد؛ إلى الإيمان؛ كما في قوله (تعالى): ونذرهم في طغيانهم يعمهون ؛ فالمجاز في المسند فقط؛ وثالثا بأن المراد معناه الحقيقي؛ وهو فعل الشيطان؛ لكنه أسند إليه - سبحانه - مجازا؛ لأنه بتمكينه (تعالى)؛ وإقداره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية