الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ لم يكن عمر يقلد أبا بكر ؟ ]

الوجه السادس والثلاثون : قولهم : إن عمر قال في الكلالة إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر ، وهذا تقليد منه له ، فجوابه من خمسة أوجه ; أحدها : أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ، ونحن نذكره بتمامه .

قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي إن أبا بكر قال في الكلالة " أقضي فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء ، هو ما دون الولد والوالد " .

فقال عمر بن الخطاب : " إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر " فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه ، وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ ، ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء ، وقد اعترف أنه لم يفهمها ، الوجه الثاني : أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ، ونقض حكمه ، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي ، فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم ؟ ،

وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر ، وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة ، ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرح بذلك ، فقال : إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر ، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف .

قال ابن عمر : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ، وأنه غير مستخلف ; فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول غيره ، لا يعدلون بالسنة شيئا سواها ، لا كما يصرح به المقلدون صراحا ، وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضا .

[ ص: 166 ] الثالث : أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقاربهم ، فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره ، والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر .

الرابع : أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر ; لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه - ولا يستحيون من ذلك - لقول من قلدوه من الأئمة ، بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ، ويجب تقليد الشافعي .

فيا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ، ونحن نشهد الله علينا شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم يلتفت إلى أحد منهم . ونحمد الله أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة .

وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ، ولا جعله عيارا على كتابه وسنة نبيه ، ولا هو جعل نفسه كذلك .

الخامس : أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة ، فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله ؟ ، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة .

الوجه السابع والثلاثون : قولهم : إن عمر قال لأبي بكر : رأينا لرأيك تبع ; فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة ، واكتفى بها ، والحديث من أعظم الأشياء إبطالا لقوله ; ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال : جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح ، فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية ، فقالوا : هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية ؟ قال : ننزع منكم الحلقة والكراع ، ونغنم ما أصبنا لكم ، وتردون لنا ما أصبتم منا ، وتدون لنا قتلانا ، وتكون قتلاكم في النار ، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به ، فعرض أبو بكر ما قال على القوم ، فقام عمر بن الخطاب فقال : قد رأيت رأيا سنشير عليك : أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت ، وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت [ ص: 167 ] على ما أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات ، فتتابع القوم على ما قال عمر ، فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه { قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع } فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد ؟ ،

[ لم يكن ابن مسعود يقلد عمر ]

الوجه الثامن والثلاثون : قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر ، فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده ، وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم ، وحتى لو أخذ بقوله تقليدا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها ، وكان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين ، وأما مخالفته له ففي نحو مائة مسألة : منها أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها ، ومنها : أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات ، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه ، ومنها : أن ابن مسعود كان يقول في الحرام : هي يمين ، وعمر يقول : طلقة واحدة ، ومنها أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدا ، وعمر كان يتوبهما وينكح أحدهما الآخر ، ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها ، وعمر يقول : لا تطلق بذلك ، إلى قضايا كثيرة .

والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر ، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم ، ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول : لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه .

قال شقيق : فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ، وكان يقول : والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت ، وما من آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه . وقال أبو موسى الأشعري : كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له .

وقال أبو مسعود البدري : وقد قام عبد الله بن مسعود : ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم ، فقال أبو موسى : لقد كان يشهد إذا ما غبنا ، ويؤذن له إذا ما حجبنا .

وكتب عمر إلى أهل الكوفة : إني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر ، فخذوا عنهما ، واقتدوا بهما ; فإني آثرتكم بعبد الله على نفسي ، وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود في " ألبتة " وأخذ بقوله ، ولم يكن ذلك تقليدا له ، بل لما سمع قوله فيها تبين له أنه الصواب ; فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة [ ص: 168 ] من أقوال بعضهم بعضا ، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال : اغد عالما أو متعلما ، ولا تكونن إمعة ، فأخرج الإمعة - وهو المقلد - من زمرة العلماء والمتعلمين ، وهو كما قال رضي الله عنه ; فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة ، كما هو معروف ظاهر لمن تأمله .

[ لم يكن الصحابة يقلد بعضهم بعضا ]

الوجه التاسع والثلاثون : قولهم إن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر ، وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي ، وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب ، فجوابه أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقة التقليد ، بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنا من كان ، وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة ، وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله : قال أبو بكر وعمر ، ويقول : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ; فرحم الله ابن عباس ورضي عنه ، فوالله لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قالوا : قال فلان وفلان ، لمن لا يداني الصحابة ولا قريبا من قريب ، وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء ; لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء ; فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم ، كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه ، وهذا عكس طريقة فرقة أهل التقليد من كل وجه ، وهذا هو الجواب عن قول مسروق : ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس .

[ معنى أمر رسول الله باتباع معاذ ]

الوجه الأربعون : قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قد سن لكم معاذ فاتبعوه } فعجبا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله ، وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله صلى الله عليه وسلم : " فاتبعوه " كما صار الأذان سنة بقوله صلى الله عليه وسلم وإقراره وشرعه ، لا بمجرد المنام .

فإن قيل : فما معنى الحديث ؟ قيل : معناه أن معاذا فعل فعلا جعله الله لكم سنة ، وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، لا لأن معاذا فعله فقط ، وقد صح عن معاذ أنه قال : كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ; فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب ، وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا .

وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه ، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه ، فصدع [ ص: 169 ] رضي الله عنه بالحق ، ونهى عن التقليد في كل شيء ، وأمر باتباع ظاهر القرآن ، وأن لا يبالي بمن خالف فيه ، وأمر بالتوقف فيما أشكل ، وهذا كله خلاف طريقة المقلدين ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية