الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيه [ السكران ]

                                                      السكران عند الأصوليين ليس بمكلف منهم القاضي في التقريب " وإمام الحرمين في التلخيص " والغزالي والشيخ أبو إسحاق وابن برهان في الوجيز " وابن القشيري .

                                                      وقال الإمام في الأساليب " : السكران عندنا غير مخاطب فإنه يستحيل توجه الخطاب على من لا يتصور ، ولكن غلظ الأمر في سكره ردعا ومنعا ، فألحق بالصاحي . ممن قال : إنه غير مخاطب مجلي في الذخائر " ، وقال : إنه الصحيح من أقوال العلماء . قال : وإنما وجب القضاء تغليظا عليه ، ونقله النووي في الروضة " عن أصحابنا الأصوليين . قال : ومرادهم أنه غير مخاطب حالة السكر ، ومرادنا أنه مكلف بقضاء العبادات بأمر جديد . [ ص: 68 ] قلت : والصحيح : أن السكران المعتدي بسكره مكلف مأثوم .

                                                      هذا هو مذهب الشافعي نص عليه في الأم " فقال : ومن شرب خمرا أو نبيذا فأسكره فطلق لزمه الطلاق والحدود كلها والفرائض ، ولا تسقط المعصية بشرب الخمر ، والمعصية بالسكر من النبيذ عنه فرضا ولا طلاقا .

                                                      فإن قال قائل : فهذا مغلوب على عقله ، والمريض والمجنون مغلوب على عقله . قيل : المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله .

                                                      وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم ، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب ؟ والصلاة مرفوعة عن من غلب على عقله ولا ترفع عن السكران ، وكذلك الفرائض من حج أو صوم أو غير ذلك . ا هـ .

                                                      ولهذا قال الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول : مذهب الشافعي أنه مكلف ونسب مقابله إلى أبي حنيفة ، ولهذا صحح الشافعي تصرفاته ، واحتج لذلك فيما نقله البيهقي بقوله : { رفع القلم عن ثلاثة } . قال : والسكران ليس في معنى واحد من هؤلاء ، ولأنه يجب عليه قضاء الصلوات بخلاف المجنون .

                                                      قال الشافعي في الأم " . المريض مأجور مكفر عنه مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله ، وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم . ا هـ .

                                                      قيل : وقول الشافعي مضروب على السكر " : فيه تجوز إنما هو على الشرب سكر أم لم يسكر ، لكنه يريد على سبب السكر . [ ص: 69 ]

                                                      وقد استشكل بعضهم نص الشافعي على تكليفه مع إخراج الأصوليين له عن ذلك ، والتسوية بينه وبين سائر من لا يفهم .

                                                      قال الغزالي : بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكنه تنبيهه ، فإما أن يكون ما قاله الشافعي قولا ثالثا مفصلا بين السكران وغيره للتغليظ عليه ، وهو الأقرب ، أو يحمل قوله على السكران الذي ينتقل عن رتبة التمييز دون الطافح المغشى عليه ، ولا ينبغي أن يظن ظان من ذلك أن الشافعي يجوز تكليف الغافل مطلقا ، فقدره رضي الله عنه يجل عن ذلك . قلت : وبالثاني صرح أبو خلف الطبري كما سنذكره ، والأقرب احتمال ثالث ، وهو أن التكليف في حقه مستصحب لا واقع وقوعا مبتدأ كما قال إمام الحرمين في الخارج من الدار المغصوبة : إنه مرتبك في المعصية .

                                                      القائلون بعدم تكليفه اختلفوا في الجواب عما احتج به الشافعي من التزامه بقضاء العبادات وصحة التصرفات ، فقيل : لا دلالة دالة على ثبوتها في حقه بعد الإفاقة .

                                                      وقال ابن سريج : لما كان سكره لا يعلم إلا من جهته ، وهو متهم في [ ص: 70 ] دعوى السكر لفسقه ألزمناه حكم أقواله وأفعاله وطردنا ما لزمه في حال اليقظة .

                                                      وقال الغزالي : إلزامنا له ذلك من قبيل ربط الحكم بالسبب ولا يستحيل ذلك في حق من لا تكليف عليه يعني أنه من خطاب الوضع .

                                                      وأنكر بعض المتأخرين ذلك وقال : هذا الجواب ليس بصحيح ، فإن خطاب الوضع لا يقتضي قتلا ولا إيقاع طلاق ولا إلزام حد ، وكون الزنا جعل سببا لإيجاب الحد على الزاني لا يستطيع أحد أن يقول : إنه من باب خطاب الوضع . قلت : الطلاق مما اجتمع فيه الخطابان ، لأنه إما مباح أو مكروه ، وهو منصوب سببا للتحريم ، فيكون من خطاب الوضع ، وكذلك القتل هو محرم ، وهو منصوب سببا لما ترتب عليه من القصاص والدية ، وثبوت القصاص أو الدية خطاب وضع فقط لا تكليف . حقه كما في الإرث ، والله أعلم .

                                                      وقال القفال الشاشي في محاسن الشريعة " : اختلف في السكران ، فقيل : لا يقع طلاقه ، لزوال عقله ، وقيل : يجوز طلاقه ، لأنه في الشريعة مخاطب مكلف تلزمه الأحكام في حال سكره إذا كان زوال عقله بأمر عصى الله فيه ، فعوقب بأن ألحق بالمكلفين ردعا له ولغيره عن شرب الخمر .

                                                      قال : وكلا القولين جائز محتمل لورود الشريعة بهما . ا هـ . قلت : والظاهر أن الخلاف في غير المنتهي إلى ما لا يعقل ألبتة ، وبذلك صرح أبو خلف الطبري في كتاب الطلاق من شرح المفتاح " ، فقال : قلت : والذي يجب أن يقال في تصرف السكران : إن السكران على نوعين :

                                                      أحدهما : يعقل ما يقول : فهذا مخاطب وتصح جميع تصرفاته ، [ ص: 71 ]

                                                      والثاني : لا يعقل ما يقول ، وقد زال عقله وذهب حسه بالكلية ، فهذا غير مخاطب فلا يصح شيء من تصرفاته ، ولا حكم لكلامه ، وهذا أدون حالة من المجنون هذا هو اختياري . انتهى كلامه .

                                                      وهذا هو قضية كلام الإمام في النهاية " ، وصرح بأنه إذا انتهى إلى حالة النائم والمغمى عليه ، فالوجه القطع بإلحاقه بهما .

                                                      قال : وأبعد من أجراه على الخلاف ، وقال ابن العربي في المحصول " الخلاف في الملتج أما المنتشي ، فمكلف إجماعا . قلت : ويدل عليه جوابهم عن الآية ، وممن أطلق تكليف السكران شيخا المذهب أبو حامد والقفال ، ونقلاه عن المذهب ، وجزم به القاضي الحسين في فتاويه " والبغوي والروياني والشيخ أبو محمد الجويني وأبو الفضل بن عبدان في كتاب الأذان من شرائط الأحكام " وجزم به ابن السمعاني في القواطع " ، ونقله ابن برهان في الأوسط " عن الفقهاء من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة ، ثم نقل المنع عن المتكلمين منا ومن المعتزلة . [ ص: 72 ]

                                                      وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال أبي : قال الشافعي : وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم ، وكان أبي يعجبه هذا ويذهب إليه . ا هـ .

                                                      وأطال القاضي أبو بكر في التقريب " عدم تكليفه ، ثم قال ما حاصله : إنه مكلف لكن بعد السكر بما كان في السكر ، وهذا الكلام مجمع مذاهب الفريقين .

                                                      وصرح الإمام في البرهان " بأنه غير مكلف مع تقريره في كتب الفقه مؤاخذته المصرحة بالتكليف ، وهو مؤول بما سبق . وقال ابن القشيري : هو غير مكلف بمعنى أنه يمنع توجه الخطاب إليه ، أما ثبوت الأحكام في حقه ، وتنفيذ بعض أقواله فلا يمنع . قال : وهذا مطرد في تكاليف الناسي في استمرار نسيانه ، إذ لو كان ممن فهم الخطاب ، لكان متذكرا لا ناسيا ، قال : ولعل من قال بتكليفه بناه على جواز تكليف ما لا يطاق .

                                                      وقال الإبياري : الظاهر عندنا تكليف السكران .

                                                      وقال بعض المحققين : التكليف بمعنى إيجاب القضاء عام في الناسي والنائم والسكران ، وبمعنى عدم الخطاب حاصل في النائم والناسي . وأما السكران فعند الأصوليين يلحق بهما ، وعندنا بخلافه ، وظاهر كلام الشيخ أبي حامد [ ص: 73 ] أنه مخاطب حالة السكر ، وكذلك الماوردي وابن عبدان . ولا شك أن القول بتكليف السكران باعتبار ترتب الأحكام لا إشكال فيه ، وهو نوع من خطاب الوضع ، وقد يدخلونه في خطاب التكليف كما أدخلته طائفة في حد واحد .

                                                      وأما باعتبار الإثم على ما يصدر منه حال السكر ، فإن كان فيه نشاط فواضح ، وإن كان طافحا أو مختلطا فمحل نظر . ولعل الفقهاء لا يرون الإثم ، أو لعلهم يريدون الطافح ، والأصوليون يريدون المختلط ، فإن التكليف فيهما تكليف مع الغفلة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية