الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 151 ] النوع الرابع والثلاثون

معرفة ناسخه من منسوخه

والعلم به عظيم الشأن وقد صنف فيه . . . [ ص: 152 ] جماعة كثيرون منهم قتادة بن دعامة السدوسي ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو داود السجستاني ، وأبو جعفر النحاس ، وهبة الله بن سلام الضرير ، وابن [ ص: 153 ] العربي ، وابن الجوزي ، وابن الأنباري ، ومكي ، وغيرهم .

[ ص: 154 ] [ ص: 155 ] [ ص: 156 ] [ ص: 157 ] [ ص: 158 ] ومن ظريف ما حكي في كتاب هبة الله أنه قال في قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ( الإنسان : 8 ) منسوخ من هذه الجملة ( وأسيرا ) والمراد بذلك أسير المشركين ، فقرئ الكتاب عليه وابنته تسمع ، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت : أخطأت يا أبت في هذا الكتاب ! فقال لها : وكيف يا بنية ؟ قالت : أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا .

قال الأئمة : ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ ، وقد قال علي بن أبي طالب لقاص : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : الله أعلم ، قال : هلكت وأهلكت .

[ ص: 159 ] والنسخ يأتي بمعنى الإزالة ، ومنه قوله تعالى : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ( الحج : 52 ) .

ويأتي بمعنى التبديل كقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية ( النحل : 101 ) .

وبمعنى التحويل كتناسخ المواريث يعني تحويل الميراث من واحد إلى واحد .

ويأتي بمعنى النقل من موضع إلى موضع ، ومنه : ( نسخت الكتاب ) إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه ، قال مكي : وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ وإنما يأتي بلفظ آخر ، وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي : يشهد لما قاله النحاس ، قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( الجاثية : 29 ) ، وقال : وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ( الزخرف : 4 ) ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أم الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ كما قال : في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ( الواقعة : 78 ، 79 ) .

ثم اختلف العلماء فقيل : المنسوخ ما رفع تلاوة تنزيله ، كما رفع العمل به . ورد بما نسخ الله من التوراة بالقرآن والإنجيل وهما متلوان .

[ ص: 160 ] وقيل : لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل . والنسخ مما خص الله به هذه الأمة في حكم من التيسير . ويفر هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به وهذا مذهب اليهود في الأصل ، ظنا منهم أنه بداء ، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له ; وهو باطل ، لأنه بيان مدة الحكم ، ألا ترى الإحياء بعد الإماتة وعكسه ، والمرض بعد الصحة وعكسه ، والفقر بعد الغنى وعكسه ، وذلك لا يكون بداء ، فكذا الأمر والنهي .

وقيل : إن الله تعالى نسخ القرآن من اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب ، فأنزله على نبيه ، والنسخ لا يكون إلا من أصل .

والصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا .

ثم اختلفوا ، فقيل : لا ينسخ قرآن إلا بقرآن لقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ( البقرة : 106 ) ، قالوا : ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن .

وقيل : بل السنة لا تنسخ السنة .

وقيل : السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت ، وإن كانت باجتهاد فلا تنسخه ، حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره .

وقيل : بل إحداهما تنسخ الأخرى ، ثم اختلفوا فقيل : الآيتان إذا أوجبتا حكمين مختلفين وكانت إحداهما متقدمة الأخرى ، فالمتأخرة ناسخة للأولى ، كقوله [ ص: 161 ] تعالى : إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ( البقرة : 180 ) ثم قال بعد ذلك : ولأبويه لكل واحد منهما السدس ( النساء : 11 ) ، وقال : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ( النساء : 11 ) قالوا : فهذه ناسخة للأولى ، ولا يجوز أن يكون لهما الوصية والميراث .

وقيل : بل ذلك جائز ، وليس فيهما ناسخ ولا منسوخ ، وإنما نسخ الوصية للوارث بقوله عليه السلام : لا وصية لوارث وقيل : ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة .

[ ص: 162 ] ويجوز نسخ الناسخ فيصير الناسخ منسوخا ، وذلك كقوله : لكم دينكم ولي دين ( الكافرون : 6 ) نسخها بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين ( التوبة : 5 ) ثم نسخ هذه أيضا بقوله : حتى يعطوا الجزية عن يد ( التوبة : 29 ) ، وقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ( البقرة : 109 ) وناسخه قوله تعالى : فاقتلوا المشركين ( التوبة : 5 ) ، ثم نسخها : حتى يعطوا الجزية ( التوبة : 29 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية